الأربعاء، 7 مايو 2014

"سر مريم" للقديس جرينيون دي مونفور

­­
مقدمة المترجم

إني سعيد بإهداء قراء اللغة العربية، وخاصة المصريين منهم، هذه الترجمة لأحد أعظم القديسين الذين رأتهم الأرض. أُعطِيت لهذا القديس نعمة فريدة لفهم وشرح مكانة العذراء مريم في حياتنا المسيحية بشكلٍ بسيط ومفهوم. القديس لويس ماري جرينيون دي مونفور (1673 – 1716) ينتمي إلى سلالة من القديسين ومؤسسي الرهبانيات الفرنسيين الذين نالوا نعمة التعمق في علاقة العذراء مريم بالمسيح وفي علاقتها معنا، بل إنه صاحب أفضل بَلْوَرة لهذه المفاهيم. حتى وإن كان القديس مونفور قد أسس رهبانيتين وكان مرسل بابوي مدعو لتبشير فرنسا مرة أخرى بالإنجيل وصاحب حملات تبشيرية شعبية فعّالة، سيتذكره التاريخ أكثر بكونه من أعظم وأعمق من تكلم عن العذراء مريم. الجدير بالذكر إنه في هذه الآونة تقوم لجنة في الفاتيكان للبحث في إعلانه "ملفان" أو "معلم كنيسة" وذلك لغنى تعليمه وفائدته للكنيسة جمعاء. إن أهمية وفاعلية الكلام الذي أُعطي للقديس مونفور عن العذراء مريم يجعل حياتنا تُقسم إلى جزئين: ما قبل قراءة مونفور وما بعد قراءته.



إن كتاب "سرّ مريم" هو في الواقع تلخيصٌ جيدٌ جداً لكتاب أكبر كتبه أيضاً القديس مونفور: "التعبد الحقيقي للعذراء مريم". إن هذان الكتابين منتشران انتشاراً واسعاً باللغة الفرنسية وغيرها من اللغات ولهم طبعات بأعداد لا تُحصى. لقد ظهر في الماضي هذا الكتاب ("سرّ مريم") في لبنان في طبعتين على الأقل وكان طابع الترجمة يميل إلى التصرف. حتى يطمئن القاريء العربي للمعاني وقصد القديس مونفور، أردنا أن نقدم هنا ترجمة أدق وأكثر أمانةً للنص الفرنسي الأصلي.

هذا الكتاب يعرض روحانية مريمية ونمط حياة مع العذراء مريم في شكل ممارسات. علينا أن نركز ليس أولاً على حرفية الممارسات ولكن على الموقف الروحى الداخلي للمتعبد المريمي فهو ينبوع غزير للحصول على نعم الله تعالى.

يشير القديس مونفور في هذا الكتاب إلى نوعين من الممارسات:

1- ممارسات داخلية، يتعبد فيها المؤمن للعذراء مريم باطنياً، ويحصل بها على نعم غزيرة في مسيرته الروحية، وهذه الممارسات لازمة وضرورية.

2- ممارسات خارجية، وهي طرق لتوجيه المؤمن كيف يتلو بعض الصلوات وطريقة تلاوتها (مثل صلاة الإكليل الصغير، حمل السلسلة،إلخ...)، وهي، على قدر منفعتها، غير ملزمة، بل هي ترجع إلى قدرة وصحة كل إنسان وإختياره الشخصي، مع مراعاة أن هذا الكتاب قد كُِتب في القرن الثامن عشر، حيث كانت أساليب العبادة والصلاة تختلف بعض الشيء عن إختيارات وقتنا هذا.

أودّ هنا أن أقدم ملاحظتين لقاريء هذا الكتاب، الأولى تخص معنى كلمة "سرّ" في لفظ "سر مريم"، والأخرى معنى "العبودية" عند القديس مونفور.


أولاً: أراد وشدّد القديس مونفور أن نفهم أنه يقدم لنا سراً عميقاً هو بمثابة "كنز" أو "لؤلؤة ثمينة" (مت13، 44 - 46). من السهل أن نتساءل: "- ولم أخفى عنا الله سراً بهذه الأهمية لخلاصنا؟" - في الواقع إن هذا السر موجود في الوحي الإلهي وفي الكتاب المقدس منذ البدء، والقديس مونفور أظهره وشرحه فقط وأضاف قائلاً أن فهم هذا السر هو نعمة خاصة يعطيها الله لمحبيه. وقد أوضح أيضاً في كتاباته أن الله فضّل التركيز أولاً على المسيح المخلص الأوحد والوسيط الأوحد بين الله والناس حتى لا يبتعد نظرنا عنه. واسترسل قائلاً أن هدفه عند إعلانه لنا عن العذراء ليس هو إلا إعلاء شأن المسيح، فإنه هدفنا وهدف العذراء أيضاً. علينا إذاً أن نتناول هذا الكتاب بتواضع وخشوع شديدين معتبرينه نعمة فريدة في حياتنا باذلين أقصى جهدنا على فهم وتطبيق المعاني الكامنة فيه.


ثانياً: لقد اتخذ القديس مونفور معنى "العبودية" كفكرة أساسية ليعبر عن علاقتنا مع العذراء مريم. ب"العبودية" يشير إلى واقع قد إندثر اليوم وهو وجود أناس مسلوبي الحرية تماماً وهم مِلك أسياد. إبتعادنا اليوم كل الإبتعاد عن هذا الواقع ممكن أن يزعجنا عندما نراه مستخدماً في هذا الكتاب وخاصة أن القديس طبقه على الحياة المسيحية. عندما نقرأ كلام القديس مونفور عن العبودية وإستخدامه لها في وصف علاقتنا مع العذراء مريم (نحن العبيد وهي السيدة) علينا أن نفعله بشكل عميق وبنّاء. علينا ألا نتوقف عند قضية قد إندثرت ولكن أن نبحث عن المكنون اللاهوتي لهذا اللفظ متحررين من الإحساس بالانزعاج. فبالذهاب إلى العمق سنكسب الكثير ونستخلص أنواراً مفيدة كل الفائدة.


وقبل أن نترك هذا الكتاب بين يدي القاريء، نريد أن نُذكّر أن البابا يوحنا بولس الثاني كان يقرأ يومياً صفحتين للقديس مونفور (كتاب "التعبد الحقيقي للعذراء مريم"). إن قداسة هذا البابا وخصوبته من ناحية، وتعبده الشديد للعذراء مريم وقراءته للقديس مونفور من ناحية أخرى، كافيان لإثارة فضولنا والسعي لإكتشاف هذا التعليم المريمي الثمين. وأخيراً نتمنى أن قراءة هذا الكتاب سوف تشجع القاريء على أن يقرأ كتاب "التعبد الحقيقي للعذراء مريم"، ونحن نعد طبعة جديدة مصرية بعد نفاذ الطبعة الأولى في لبنان.

مايو 2013
رفيق خوري

سر مريم




مقدمة

[1] أيتها النفس المختارة، إنى أستودعك سراً أوحاه إلىّ الرب الإله، وما عثرت عليه فى أى كتاب قديم أو جديد. ها أنا أسلمه إليكِ بالروح القدس، وبموجب الشروط الآتية:
  1. أن لا تعهدى به إلا إلى أناس يستحقونه بصلواتهم وصدقاتهم وإماتاتهم، واضطهاداتهم وغيرتهم لخلاص النفوس وتجردهم.
  2. أن تستخدميه حتى تصبحي قديسة وسمائية لأن هذا السر يكبر كلما استخدمته النفس. إياكِ أن تبقي مكتوفة الأيدي وبلا عمل لأن في هذه الحالة سيصبح سري سُماً ودينونة عليكِ.
  3. عليك أن تشكرى الله، جميع أيام حياتك، على هذه النعمة التى خصّك بها، وهى أنه كشف لك سراً لا تستحقين معرفته. فبقدر ما تستخدمي هذا السر الثمين فى أعمال حياتك العادية، بنفس القدر ستعرفى قيمته وسموه، وهذه المعرفة ستكون في البدء غير كاملة بسبب كثرة وجسامة خطاياكِ وتعلقاتك الخفية بذاتك.
[2] وقبل أن يلح عليكِ الشوق بمعرفة حقيقة هذا السر، وصيتى إليك، أيتها النفس الورعة، هى أن تسجدي وتصلي بخشوع هذه الصلوات: "يا نجمة البحر" و"هلم أيها الروح القدس"، فتسألى الله أن يهبك نعمة خاصة بها تدركين جوهر هذا السر الإلهى، وتتذوقين عذوبته وطيبته... بسبب قلة الوقت المتاح لي للكتابة والمتاح لك للقراءة سأقول كل شيء بإيجاز...

[الفصل الأول : ضرورة التعبد الحقيقى لمريم]
[أ أن نعمة الله هى ضرورة مطلقة]
[3] إن مشيئة الله فيك، أيتها النفس المتعبدة وصورته الحية المشتراه بدم ابنه الثمين يسوع، هى أن تصيري فى هذه الحياة قديسة كما هو قدوس، وفي الأخرى مجيدة كما هو مجيد. إن بلوغ القداسة هو دعوتك الأكيدة، ونحوها ينبغى أن تصوبى أفكارك وأقوالك وأعمالك، وعذاباتك وكل أفعال حياتك، وإلا فأنت تقاومين الله، لأنك لا تسعين ولا تحققين ما لأجله خلقك وحفظك فى الوجود. آه، يا له من صنيع عجيب! ها أن التراب يتحول إلى نور، والحقارة إلى طهر، والخطيئة إلى قداسة، والخليقة إلى الخالق، والإنسان إلى الله! أكرر يا له من صنيع عجيب! ولا ريب فى أن ذلك عمل مدهش وشاق فى حد ذاته، لن يقوى عليه طبعنا البشرى وحده، ولكن الله تعالى بنعمة منه، خاصة، وغزيرة، وفائقة الطبيعة، يستطيع تحقيقه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن خلق العالم أجمع ليس هو عملاً أشد روعة من هذا العمل.
[4] فما هو موقفك، أيتها النفس، وأية وسائل تختارين لترتقى إلى حيث يدعوك الله ؟
إن وسائل الخلاص والقداسة يعرفها الجميع وهي مدونة في الإنجيل، وقد شرحها معلمو الحياة الروحية، ويمارسها القديسون، فهى ضرورية لمن أرادوا النجاة وبلوغ الكمال، وأخصها: تواضع القلب، والصلاة الدائمة، الإماته الشاملة، والتسليم للعناية الإلهية، ومطابقة ارادتنا مع إرادته القدوسة.
[5] حتى نمارس جميع وسائل الخلاص والقداسة هذه، نحن نحتاج نعمة ومعونه الله بشكلٍٍٍٍٍ مطلق وهذه النعمة تمنح لجميع الناس بدرجات متفاوتة؛ تلك حقيقة لا ريب فيها. أقول: "بدرجات متفاوتة" لأن الله حتى وإن كانت طيبته لامتناهية فإنه لا يعطي نعمته بنفس الشدة للجميع حتى وإن كان ما يعطيه يكفي الجميع [روما12، 6]. النفس الأمينة إن أعطيت نعمة كبرى، تقوم بعمل كبير، وإن أعطيت نعمة صغرى، تقوم بعملاً صغيراً. فإن النعمة الإلهية، إذا تجاوبت معها النفس، طبعت أعمالها بطابع وامتياز مرموقين. هذه المباديء لا تقبل الجدل.

[ب- إذا شئنا الحصول على نعمة الله، علينا أن نجد مريم]

[6] كل شيء ينحصر إذن في وجوب إيجاد طريقة سهلة حتى نجد من الله النعمة الضرورية كي نصبح قديسين؛ هذه [الطريقة] هي ما أريد أن أعلمكم. وأقول أنه حتى نجد نعمة الله علينا أن نجد مريم. للأسباب الآتية:
[7] 1- وحدها مريم هي التي وجدت نعمة الله لها ولكل إنسان بشكل خاص. وتلك النعمة لم يستطع الآباء والأنبياء والقديسين فى العهد القديم أن يجدوها.
[8] 2- إن مريم هى التى أعطت الكيان والحياة لينبوع كل نعمة، ولذا فهى تدعى "أم النعمة".
[9] 3- إن الله الآب هو المصدر الجوهري لكل عطية وموهبة، بإعطائه ابنه الوحيد لمريم، قد منحها معه جميع نعمه، بشكل أن مشيئة الله وهبت لها فى المسيح ومعه، كما قال القديس برناردس.
[10] 4- لقد اختارها الله لتكون وكيلة وخازنة وموزعة لجميع نعمه، فلا تعطى نعمة وهِبة إلاعلى يدها؛ و، بحسب السُلطة التي نالتها منه، كما يقول القديس برناردينو، إنها تعطي لمن تشاء، كما تشاء، عندما تشاء وقدر ما تشاء نعم الآب الأزلى، فضائل يسوع المسيح ومواهب الروح القدس.
[11] 5- وكما أن لكل ولد أباً وأماً فى النظام الطبيعى، هكذا فى نظام النعمة، فإن ابن الكنيسة الحقيقى، ينبغى أن يكون الله أباه، ومريم أمه؛ وإذا تباهى بأن الله أب له، وهو يفتقر إلى حنان الابن الحقيقي لمريم، فذاك خادع، لا أب له، فى الواقع، سوى الشيطان...
[12] 6- وبما أن مريم كونت رأس المختارين يسوع المسيح، فلابد من ثم، أن تكوّن أيضاً أعضاء هذا الرأس، أى المسيحيين الحقيقيين: لأن الأم لا تكوّن الرأس بدون الأعضاء ولا الأعضاء بدون الرأس.
من أراد أن يكون عضواً في [جسد] يسوع المسيح، الممتليء نعمة وحقاً [يو1، 14]، عليه أن يكوَن في مريم بواسطة نعمة يسوع المسيح [هذه النعمة] تسكن فيها بملء حتى تُوهَب بملء إلى أعضاء يسوع المسيح الحقيقيين، الذين هم أولادها الحقيقيين.
[13] 7- وحين اتخذ الروح القدس مريم عروسة له، كوّن فيها وبها ومنها، يسوع المسيح الكلمة المتجسد، تحفة الخلائق؛ بما أنه لم يردها أبداً فهو يواصل كل يوم فيها وبها تكوين المختارين بطريقة سرية، ولكنها حقيقية.
[14] 8- ولقد منح الله مريم سُلطة خاصة على النفوس، لكى تغذيهم وتنميهم في الله. وقد أشار القديس أغسطينوس بقوله: "أن المختارين كلهم مُغلق عليهم، طيلة حياتهم فى العالم، فى أحشاء مريم، وأنهم لا يروا النور إلا عندما تلدهم هذه الأم الصالحة للحياة الأبدية". وكما أن الولد يستمد كل غذائه من أمه التى تهبه إياه متناسباً مع ضعفه، هكذا المختارون يستمدون كل غذائهم الروحى وكل قوتهم من مريم.
[15] 9- ولقد قال الله الآب لمريم : "يا ابنتى، اسكنى فى يعقوب"، أى فى المختارين الذين يرمز إليهم يعقوب. وقال الله الابن لأمه العذراء : "يا والدتى الحنون، ليكن ميراثك فى إسرائيل، أى فى المختارين". وأخيراً قال الله الروح القدس لمريم : "يا عروسي الأمينة، اطرحي جذوراً فى مختاريّ" [انظر بن سيراخ24، 13 و 16].
كل من هو مختار ومنتقى لديه العذراء مريم ساكنة فيه، أي في نفسه، ويدعها ترمى فيها جذور تواضع عميق، ومحبة حارة، وسائر الفضائل...
[16] 10- لقد سمى القديس أغوسطينوس مريم "عالم الله الحى"، "قالب الله" أي أن فيها فقط قد كوّن بشكل طبيعي الإله المتجسد دون أن ينقصه شيء من لاهوته.
وعلى هذا المنوال، يستطيع الإنسان، فى مريم وحدها، أن يتكون في الله طبيعياً بقدر ما تستطيع الطبيعة البشرية بنعمة المسيح.
أن النحات يمكنه، فى الواقع، أن يرسم وجهاً أو ينحت تمثالاً بطريقتين اثنتين:
الأولى : يعتمد فيها على قوته ومهارته، وعلمه، وجودة أدواته، تحقيقاً لصورته فى المادة الصلبة الخام.
والثانية : أن يرمى بالصورة فى القالب.
أن الطريقة الأولى شاقة، طويلة المدى، وعرضة لكثير من الأغلاط، لأن مجرد ضربة إزميل، أو مطرقة فى غير محلها، كافية أغلب الأحيان أن تشوه العمل الفنى كله.
أما الطريقة الثانية فهى سهلة، سريعة، وديعة، خالية من الجهد والتكلفة، شرط أن يكون القالب كاملاً ويجسد الأصل، وتكون المادة المعتمدة لينة، مطاوعة لا تقاوم عمل يدى النحات.
[17] أن مريم هى قالب الله العظيم الذى كوّنه الروح القدس لكي يُشكل، طبيعياً، الإنسان – الإله عن طريق الإتحاد الأقنومى، ويشكل بالنعمة، فى [تدبيره الخلاصى]، إنسان إله. وأن هذا القالب لا يفتقر إلى أية خاصية من خصائص اللاهوت. من أودع فيه وكان ليناً مطاوعاً، حصل على كل سمات يسوع المسيح، الإله الحق، بمقدار وديع ومتناسب وضعف طبيعته البشرية، وبدون عناء، أو بذل جهد كبير. [وأن هذه النفوس المرتمية فى القالب المريمى وهى تحت رعايتها] ستعيش فى مأمن من أى انخداع على الإطلاق، لأن الشيطان لا ولن يستحوذ أبداً على مريم القديسة، البريئة من كل عيب، والخالية من أى ظل لوصمة الخطيئة.
[18] فيها أيتها النفس، تأملى كم هو عظيم الفرق بين نفس مكونة في المسيح يسوع بالطرق العادية التى يسلكها الواثقون بنفوسهم، وعلمهم ومهارتهم البشرية، كالنحاتين، وبين نفس، سائلة، مرنة، مطاوعة، غير مرتكزة على ذاتها، تضع نفسها في مريم، وتكون لينة تحت عمل الروح القدس! أن النفس الأولى مشوبة بالنواقص والأخطاء، تكتنفها الأوهام والظلمات؛ وعملها طبيعي وبشري؛ والنفس الثانية تبدو طاهرة، إلهية وشبيهة بيسوع المسيح!
[19] فليس هناك ولن يكون من خليقة يكون الله فيها أكبر من ذلك، خارجاً عن ذاته وفي ذاته، إلا مريم المؤلهة ودون اسثناء الأبرار والكاروبيم وأعلى الساروفيم في الفردوس ذاته...
إن مريم هى فردوس الله وعالمه المنقطع النظير، دخله ابن الله حتى يصنع فيه العظائم ويحفظه ويُسرّ فيه. لقد خلق الله للبشر هذا العالم الأرضي، وأوجد عالماً آخر للإنسان البار هو الفردوس؛ ولكنه صنع عالماً آخر له وقد أسماه "مريم"؛ وهذا العالم يجهله أغلب الناس، ولا يفهمه كل الملائكة والأبرار فى السماء الذين، وهم فى غمرة الدهشة والتعجب لمشاهدتهم الله المتعالى، المستتر عنهم، المنفصل والمختبيء في عالمه، [أي] مريم المؤلهة، نراهم يصرخون ليلاً نهاراً: قدوس، قدوس، قدوس!".
[20] فطوبى وألف مرة طوبى للنفس في هذه الدنيا التى يكشف لها الروح القدس سر مريم حتى تعرفه، والذي يفتح لها هذه الحديقة المصونة حتى تدخل فيها، في الينبوع الصافي حتى تنهل منه وتشرب بغزارة من مياه النعمة الحية! هذه النفس لن تجد في هذه الخليقة المحبوبة [أي مريم] إلا الله وحده بدون خلائق؛ ولكن ستجد الله الذي هو في نفس الوقت لا متناهي في قداسته وسموه، ولا متناهي في تنازله وتوافقه مع ضعفها [أي النفس]. وبما أن الله موجود فى كل مكان، نستطيع أن نجده في كل مكان، حتى في جهنم1، غير أنه ليس من مكان تقدر الخليقة على أن تجده فيه قريباً إلى ذاتها، متناسباً مع ضعفها، إلا فى مريم، لأنه لهذه الغاية قد نزل. في أي مكان آخر هو خبز الأقوياء والملائكة؛ أما فى مريم فهو خبز الأبناء...
[21] فلا نتخيل إذاً، مع بعض المستنيرين الزائفين، بأن مريم بصفتها خليقة بشرية، تشكل حاجزاً يحول دون اتحادنا بالخالق: ليست مريم هي التي تحيا ولكن هو يسوع المسيح وحده، الله فقط هو الذي يحيا فيها2. إن تحول مريم في الله يفوق بدرجات كثيرة تحول القديس بولس والقديسين، بمقدار ارتفاع السماء عن الأرض.
فمريم لم تخلق إلا لله، وهى بعيدة عن الإحتفاظ لذاتها بنفسٍ، على عكس ذلك [عندما تعهد نفس بذاتها إلى العذراء] فإن العذراء تدفع بها إلى الله، وتوحدها به بنفس درجة الكمال التي تتحد النفس بها [أي بمريم]. إن مريم هى صدى الله العجيب، وهي تجيب: "الله"، عندما نصرخ: "مريم"، وهي لا تعظم إلا الله عندما ندعوها مع أليصابات: "مباركة". لو استطاع المستنيرون الزائفون الذين أغواهم الشيطان، حتى في صلاتهم، أن يجدوا مريم، ويسوع بواسطتها، والله بواسطة يسوع، لما تعرضوا إلى سقطات جسيمة. كما تقول النفوس القديسة: إذا وجدنا أخيراً مريم، ويسوع بواسطة مريم والله الآب بواسطة يسوع فقد وجدنا كل خير. ومن قال "كل خير"، فإنه لم يستثنِ شيئاً: كل نعمة وصداقة مع الله؛ كل أمان ضد أعداء الله؛ كل حقيقة ضد الكذب؛ كل سهولة وكل انتصار على معوقات الخلاص؛ كل عذوبة وكل فرح وسط مرارات الحياة.
[22] وهذا لا يعني إطلاقاً إن من وجد مريم في تعبد حقيقي لها أضحى بمعزل عن الصلبان والعذابات، بل بالحري بات أكثر من سواه لأن مريم، كونها أم الأحياء، تشرك أبناءها جميعاً بنصيب من شجرة الحياة، أى صليب يسوع، ولكنها توفر لهم صلباناً قوية، وتمنحهم معها نعمة ليستطيعوا حملها بصبر وحتى بفرح؛ فتغدو هذه الصلبان المعطاة لذويها، نوعاً من الحلوى، أو صلبان محلاه أكثر منها مريرة؛ وإذا ذاقوا، بعض الحين، مرارة الكأس التى لابد من شربها ليصيروا أبناء الله، فإن مريم الأم الصالحة، تهبهم الفرح والعزاء بعد الحزن، مما يشجعهم بشكل لامتناهي على إحتمال صلبان أثقل وأشد مرارة.
[ج التعبد الحقيقى للعذراء القديسة هو ضروري]
[23] إن الصعوبة الآن هي فى أن نجد حقاً مريم المؤلهة وذلك حتى نحصل على كل نعمة بوفرة. فإن الله، بكونه السيد المطلق، يستطيع أن يمنح بذاته [أي مباشرةً] ما لا يمنح عادة إلا بمريم؛ لا نستطيع أن ننكر - ويكون ذلك جسارة - أنه يفعل ذلك أحياناً؛ ولكن تكيفاً مع التدبير الذى وضعته الحكمة الإلهية، أى نظام النعمة، فإنه لا يعطى ذاته عادة للبشر، إلا بواسطة مريم، كما يقول القديس توما3. فيتوجب علينا، من ثم، إذا أردنا التسامى نحو الله والاتحاد به، أن نعتمد الوسيلة ذاتها التى اعتمدها هو، حين نزل إلينا حتى يصير إنساناً ويمنحنا نعمه؛ وتلك الوسيلة هى التعبد الحقيقى للعذراء القديسة.

[الفصل الثانى : بِمَ يقوم التعبد الحقيقى لمريم؟]

[أ هناك تعبدات حقيقية كثيرة للعذراءالقديسة]
[24] إن هنالك فعلاً عدد من التعبدات الحقيقية للعذراء القديسة: ولا أتكلم هنا عن الزائفة منها.
[25] إن النوع الأول من هذه التعبدات يقتضى من المسيحي القيام بواجباته المسيحية، فيتحاشى الخطيئة المميتة، ويعمل بدافع المحبة أكثر منه بدافع الخوف، ويصلي بين الحين والآخر للقديسة العذراء، ويكرمها كأم الله بدون أي تعبد خاص نحوها.
[26] والنوع الثانى، قوامه أن يكن المتعبد لمريم مشاعر أكثر تقديراً ومحبة وثقة وتبجيل. وهذا ما يدفعه إلى الانضمام إلى أخويات الوردية والثوب، وتلاوة مسبحتها وورديتها وتكريم أيقوناتها وصورها ومذابحها وإذاعة فضائلها والإنضمام إلى جماعاتها. فهذا التعبد، مبعداً للخطيئة، هو صالح ومقدس وممدوح؛ لكنه ليس على درجة من الكمال والقدرة لتحرير النفوس من المخلوقات ولتجريدها من ذاتها حتى تتحد بيسوع المسيح.
[27] أما النوع الثالث من التعبد للعذراء مريم، فلا يعرفه ويمارسه إلا القليلون، وهذا ما أردت الكشف عنه الآن.

[ب- الممارسة الكاملة للتعبد لمريم]
[1- ما مقومات هذا التعبد ؟]
[28] أيتها النفس المختارة، إن التعبد الحقيقي لمريم قائم على أن يعطى الإنسان ذاته كاملة، في صورة عبد، لمريم وليسوع بواسطة مريم؛ ثم أن يفعل كل شئ مع مريم، وفى مريم، وبواسطة مريم، ولأجل مريم. وسأوضح هذه الكلمات.
[29] عليكِ أن نختاري يوماً مميزاً لتقدمي لها فيه ذاتك لتكرسيها وتضحي بها كاملة نفساً وجسداً، بإرادة وبحب وحرية وبدون تحفظ؛ وعليك أن تهبيها أيضاً خيراتك المادية (من بيت وعائلة، وعائدات مادية)، وخيراتك الروحية (إستحقاقاتك ونعمك وفضائلك وتعويضاتك).
وتجدر الإشارة هنا أننا بهذا التعبد نضحي ليسوع، عن طريق مريم، بأغلى شيء على نفسنا، وهذا ما لا تقضى بتضحيته أية رهبانية، عنيت بذلك: حق الإنسان فى التصرف في ذاته وفي قيمة صلواته، وحسناته وإماتاته وتعويضاته؛ إلا أنه فى هذا التعبد، يترك للعذراء مريم ملكية التصرف المطلق بها، حتى تدبرها وتوزعها كما تشاء فى سبيل مجد الله الأعظم، الذى تعرفه هى فقط بشكل تام.
[30] نضع تحت تصرفها كل قيمة الإستحقاقات التكفيرية والإرضائية4 الناجمة عن أعمالنا الصالحة: هكذا، بعد هذه التقدمة، حتى وإن كانت بدون نذور، نفقد سلطة التصرف على كل الخير الذي نصنعه؛ إلا أن العذراء يمكنها توزيعها، إما على هذه النفس المطهرية حتى تخفف عنها أو تحررها، وإما على تلك الخاطئة المسكينة بُغية إرتدادها.
[31] إننا بهذا التعبد نضع فعلاً استحقاقاتنا بين يدى العذراء القديسة؛ ولكن ذلك حتى تُحفظ وتُزاد وتُجمل، لأننا لا نستطيع أن نتبادل بعضنا البعض إستحقاقات النعمة المُقدِسة أو المجد...
لكننا نعطيها كل صلواتنا وأعمالنا الصالحة، كونها إرضائية وتكفيرية، لكى توزعها وتعطيها لمن تشاء؛ وبعد تكرسنا هذا للعذراء القديسة، فإذا رغبنا تعزية بعض النفوس المطهرية، أو خلاص بعض الخطأة، أو مساعدة بعض أصدقائنا بصلواتنا وصدقاتنا وإماتاتنا وتضحياتنا، فيتوجب علينا أن نطلب كل ذلك بتواضع منها، ونلتزم بكل ما ستقرره بدون أن نعرفه؛ متأكدين من أن قيمة أعمالنا، بما أنها مُدبرة بنفس يد الله التي يستخدمها في تدبير نعمه وهباته، لن تؤول إلا لمجده الأعظم.
[32] لقد قلت سابقاً أن هذا التعبد يقتضى منا إعطاء ذاتنا لمريم كعبيد. نلاحظ هنا أن هنالك ثلاثة أنواع من التعبد:
الأول: التعبد الطبيعى، أى خضوع جميع الناس الأبرار والأشرار لله، فهم إذاً عبيده.
الثانى: التعبد القسرى، أى كما هى حال الشياطين والهالكين الذين هم عبيد الله، فى هذا النطاق.
الثالث: التعبد الحبى وبالإرادة؛ بواسطته يجب علينا أن نتكرس لله بمريم، وبه تستطيع الخليقة أن تهب ذاتها لخالقها على أكمل وجه.
[33] ونلاحظ أيضاً، أن هناك فرقاً بين مفهومى الخادم والعبد. الخادم يريد ضمانات لقاء خدمته؛ بينما العبد لا يملك ذلك أبداً. والخادم حرّ بأن يترك سيده ساعة يشاء، و لايخدمه إلا لوقت معين؛ بينما العبد لا يمكنه أن يترك سيده، لأنه وقفٌ عليه طوال أيام حياته. وإن الخادم لا يعطى سيده حق الحياة والموت على شخصه؛ بينما العبد يعطى ذلك بنوع تام، فيستطيع سيده أن يميته مثلاً، دون أن تطاله العدالة.
ومن ثم، نستنتج بسهولة أن العبودية القسرية هى أشد الارتباطات وثوقاً ولا تصلح إلا بين الإنسان وخالقه. لذلك لا يصنع المسيحيون هكذا عبيد؛ فى حين اعتمدها الأتراك والوثنيون نهجاً لهم5.
[34] أنها لسعيدة وألف مرة سعيدة، تلك النفس السخية التى تكرس ذاتها ليسوع بواسطة مريم فى إطار التعبد الحبى، بعد أن خلعت عنها بالعماد نير عبودية الشيطان القاسى!

[2- امتياز هذه الممارسة]

[35] أنى بحاجة إلى كثير من الأنوار لكى أصف وصفاً كاملاً إمتياز هذه الممارسة، وسأكتفى فقط بقول ذلك بإيجاز:
1- أن يهب الإنسان ذاته ليسوع بواسطة أمه، ذلك معناه الاقتداء بالله الآب الذى لم يعطنا ابنه إلا بمريم، ولا يعطي نعمه إلا بواسطة مريم؛ يعنى ذلك التشبه بالله الابن الذى لم يأت إلينا إلا بواسطة مريم، وأعطانا المثل حتى نعمل نظيره، وشجعنا على الذهاب إليه متخذين الوسيلة نفسها التى إتخذها هو حين جاء إلينا، وهي مريم؛ وهذا هو إقتداء بالروح القدس الذى لا يشركنا فى نعمه ومواهبه إلا بمريم أيضاً. أليس من الحق أن تعود النعمة إلى معطيها، سالكة القناة عينها التى وصلت بها إلينا، وفقاً لكلام القديس برنردس؟
[36] 2- إن ذهابنا إلى يسوع عبر مريم، هو حقيقة يُكرم يسوع المسيح، لأنه دلالة على أننا غير أهل لأن نقترب من نفسنا مباشرة من قداسته اللامتناهية بعلة خطايانا، وعلى أننا بحاجة إلى مريم، أمه المقدسة، حتى تكون محاميتنا ووسيطتنا لديه الذي هو وسيطنا. إن ذلك في آنٍ واحد: أ- إقتراب منه الذي هو وسيطنا وأخينا و ب- وضع أنفسنا أمامه الذي هو إلهنا ودياننا: في كلمة واحدة، إن ذلك [بمثابة] ممارسة التواضع الذي يفرح دائماً قلب الله...
[37] 3– إن التكرس على هذا المنوال، ليسوع بواسطة مريم، معناه أننا نضع بين يدي مريم كل أعمالنا الصالحة التى، وإن كانت تظهر صالحة، كثيراً ما تكون متسخة وغير لائقة عند الله ولا ترضيه هو الذي تبدو النجوم غير طاهرة فى عينيه.
آهٍ! هلمَّ نطلب من هذه الأم الطيبة والمعلمة، أنه عندما تقبل تقدمتنا الضعيفة، تطهرها وتقدسها، فتسمو بها وتجملها بحيث تجعلها لائقة بالله. إن في رغبتنا أن نكسب صداقة الله ونعمته كل عوائد نفسنا تبدو أقل فى عينى الله، أب العائلة، من تفاحة نال منها السوس يقدمها مزارع مسكين لجلالته لقاء إيجار مزرعته. ماذا يفعل هذا الفلاح المسكين، لو فكر تفكيراً سليماً وكان مرضياً عند الملكة؟ كونها صديقة الفلاح المسكين وكونها تُجِلّ الملك، أفلن تنزع من التفاحة كل تسوس واهتراء، وتضعها فى صينية ذهبية مزدانة بالزهور؟ وفى هذه الحال، أيمتنع الملك أن يقبلها - وحتى بفرح - من يدي الملكة التي تحب الفلاح؟... يقول القديس برناردس: "هل شئتم أن تقربوا لله تقدمة زهيدة؟ ضعوها [إذن] بين يدى مريم، إن لم تريدوا أن تَخذلوا".
[38] يا إلهى، إن كل ما نصنعه ياله من قلة قليلة! ولكن هيا بنا نضعه بين يدي مريم بهذا التعبد. متى وهبنا ذاتنا كاملةً لها، أقصى ما نستطيعه، متجردين من كل شيءٍ في سبيلها، ستضحي هي أسخى بشكل لامتناهي معنا: فتمنحنا عوض "الحبة قبة"، ستعطي ذاتها كاملة لنا مصحوبةً بإستحقاقاتها وفضائلها؛ ستضع كل تقدماتنا فى صحفة محبتها الذهبية، وتوشحنا - تماماً كما ألبست رفقة يعقوب ابنها [ثياب أخيه عيسو] – بالثياب الجميلة التي لإبنها الوحيد والبكر يسوع المسيح، أي استحقاقاته التي في حوزتها؛ وهكذا، كخدام وعبيد، بعد أن تجردنا من كل شئ لنكرمها، سيكون لدينا ثوباً مضاعفاً: "أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضاعفة"6 (أمثال31، 21)، ثياب، زينة، عطور، استحقاقات وفضائل يسوع ومريم في نفس عبد يسوع ومريم متجرداً من ذاته وأميناً في تجرده.
[39] 4- أن نعطى ذواتنا بهذه الطريقة للعذراء القديسة، فذلك معناه ممارسة المحبة للقريب فى أعلى درجاتها الممكنة، لأنه عندما نصنع طوعياً من أنفسنا سجناء لها فنحن نضع بين يديها أعز شئ نملكه حتى تتصرف به كما تريد، لأجل خير الأحياء والأموات.
[40] 5- إن بهذا التعبد نضع في مكان آمن نعمنا، استحقاقاتنا وفضائلنا، جاعلين من مريم "أمينة الخزنة" قائلين لها: "تقبلى، يا سيدتي العزيزة، كل ما أتيته من الخير، بنعمة ابنك الحبيب؛ لا أستطيع الحفاظ عليه لضعفي وإهمالي وعدم المواظبة بسبب كثرة عدد وحيل أعدائي الذين يتصدون لي ليلاً نهاراً. وإننا نشاهد، ويا للأسف، كل يوم، أرز لبنان يتهاوى في الوحل، والنسور المحلقة فى الأعالى تصبح خفافيش ليل؛ ونرى "ألف بار يسقطون عن شمالي، وعشرة آلاف عن يميني"7، ولكن يا ملكتي القديرة كل القدرة، احفظي كل خيري خوفاً من أن يسرق، اسنديني كي لا أقع؛ أسلمكِ كوديعة كل ما لديّ: "إحفظ الوديعة."8 "أعرف بمن آمنت."9 إني أعلم من أنت لهذا أسلم ذاتي كاملةً لكِ؛ أنت أمينة لله وللبشر ولن تقبلي أن يفنى أي شيئ مما أسلمه لكِ؛ إنكِ قديرة ولا يستطيع أن يؤذيكِ شيء أو أن يأخذ أحد ما في يديكي."
"إذا اتبعتها فلن تنحرف؛ إذا طلبت منها شيء فلن تيأس؛ إذا فكرت فيها فلن تضل؛ لوأمْسَكَت بك فلن تقع؛ إذا حمتك فلن تخاف؛ إذا قادتك فلن تتعب؛ إذا رضت عنك فستصل [إلى الهدف]."10 وفي مكان آخر: "إذا كان لديك الإبن [يسوع المسيح] فلن تفقده؛ إن أتاك الشيطان فلن يؤذيك؛ إذا كانت لديك فضائل فلن تفقدها؛ إذا كانت لديك إستحقاقات فلن تضيع؛ إذا كانت لديك النعمة فلن تخسرها."
هذه كلمات القديس برناردس التي تلخص ما قلته أعلاه. فلو كان هنالك هذا السبب فقط لحثي على هذا التعبد كوسيلة لإبقائي ونموي أيضاً بنعمة الله، لكنت مولعاً به كل الولع.
[41] 6- إن هذا التعبد يجعل النفس تنعم حقيقةً "بحرية أبناء الله"11. كما إننا، حباً لمريم، نضع ذواتنا طواعيةً كعبيد لها، فإن هذه المعلمة من فرط عرفانها تشرح وتوسع قلبنا، وتجعلنا نسير بخطى جد واسعة نحو العمل بوصايا الله12. إنها تبعد الملل، الحزن والوسواس. هذا هو التعبد الذى أعلنه السيد المسيح للراهبة المتوفاة برائحة القداسة، أغنيس دى لانجاك، كوسيلة أكيدة للتخلص من المشقات الكبيرة، والحيرة التى حدثت لها، فقال لها: "كوني عبدة لأمي وخذي السلسلة13"؛ هذا ما فعلته؛ وفي الحال توقفت كل مشقاتها.
[42] وتشجيعاً لنشر هذا التعبد، لابد هنا أن نذكر كل البراءات والغفرانات البابوية ومراسيم الأساقفة في صالحه والأخويات المؤسسة لتكريمه، وأمثلة القديسين والعديدين من مشاهير الشخصيات الذين مارسوه؛ ولكنني سأكتفي بالإشارة إلى كل ذلك بصورة عابرة فقط.

[3- المضمون الباطني لهذا التعبد وروحه]
[43] لقد قلت بعد ذلك أن هذا التعبد يقتضى منا أن ننجز كل عمل من أعمالنا مع مريم، في مريم، بواسطة مريم ولأجل مريم.
[44] فلا يكفى إذاً أن نعطى ذواتنا لمريم مرة واحدة فقط [فى الحياة]، كعبيد لها؛ وليس أيضاً كافياً أن نجدد ذلك كل شهر، أو كل أسبوع: لأن تعبدنا حينئذ يصبح عابراً جداً، ولا يرفع نفسنا إلى الكمال الذى من شأنه أن يبلغنا إليه. إنه لسهل علينا الإنضمام إلى أخوية، واعتناق هذا التعبد، وتلاوة بعض الصلوات اللفظية المطلوبة منا كل يوم؛ ولكن الصعوبة الكبرى قائمة على الدخول في روح هذا التعبد، الذي يجعل النفس باطنياً مرتبطة وعبدة للعذراء القديسة وللمسيح بواستطها.
عرفت كثيراً من الناس الذين بحمية بالغة قد وضعوا أنفسهم تحت عبوديتهم [العذراء والمسيح] خارجياً؛ ولكن قلما وجدت من اقتنوا روح هذا التعبد وأقل منهم مَن ثابروا عليه.

[العمل مع مريم]

[45] 1- إن الممارسة الأساسية لهذا التعبد تتطلب منا أن نعمل كل أعمالنا مع مريم، أي أن نتخذ العذراء القديسة مثالاً كاملاً لكل ما يجب أن نفعله.
[46] فبناء عليه، وقبل الشروع بأى عمل، يتوجب علينا أن ننكر ذواتنا وأفضل آراء لدينا، وأن نتلاشى أمام الله، على كوننا، من قبل أنفسنا، لسنا أهلاً للحصول على أى خير فائق للطبيعة، وعاجزين عن أي فعل يسهم فى خلاصنا؛ يلزمنا أن نلتجئ إلى العذراء الكاملة القداسة وأن نتحد بها، وبنواياها حتى وإن كانت مجهولة لنا؛ ينبغى الاتحاد بواسطتها بنوايا يسوع المسيح، أي أن نضع ذواتنا كأداة بين يدي العذراء الكلية القداسة حتى تعمل فينا وعن طريقنا ولنا، كما يطيب لها وذلك لمجد إبنها الأكبر و- عن طريق إبنها يسوع - لمجد الآب؛ بحيث أننا لا نعتنق حياة باطنية وفعل روحي إلا معتمدين عليها.

[العمل في مريم]

[47] 2- علينا أن نعمل كل شيء في مريم أي أن نتعود، رويداً رويداً، أن نختلي في ذاتنا حتى نكون فيها فكرة صغيرة أو صورة روحية للعذراء الكلية القداسة. فستغدو للنفس بمثابة:
- المعبد حيث ستصلي كل صلواتها إلى الله دون أن تخشى رفض الله؛
- برج داود حتى تضع نفسها في أمان من كل أعدائها؛
- "السراج المضيء"14 حتى يضيء كل باطنها وحتى تشتعل بالحب الإلهي؛
- بيت القربان المقدس حتى ترى الله معها؛
- وأخيراً، كل خيرها الأوحد أمام الله وملجأها الشامل.
إن صلت فسيكون في مريم؛ إن قبلت يسوع في المناولة ستضعه في مريم حتى يُسر فيها؛ إن فعلت [أي شيء] سيكون في مريم؛ في كل مكان وفي كل شيء ستصنع أفعال إنكار ذات...

[العمل بمريم]
[48] 3- يجب ألا نذهب أبداً إلى السيد المسيح إلا عن طريق شفاعتها ورصيدها لديه، لا نكون أبداً بمفردنا عندما نصلي له...

[العمل لمريم]

[49] 4- علينا أن نعمل كل أعمالنا من أجل مريم، بمعنى أن كوننا عبيداً لهذه الملكة الجليلة، علينا أن نعمل منذ الآن فقط من أجلها، ومن أجل مصلحتها ومجدها كهدف قريب ولمجد الله كهدف أخير. على النفس في كل ما تفعل أن تتخلى عن حب الذات الذي في أغلب الأحيان وبشكل غير ملموس يفرض نفسه كهدف، وأن تردد في أحيانٍ كثيرة بكل قلبها: "يا معلمتي العزيزة، إنه لأجلك أذهب هنا أو هناك، أفعل هذا أو ذاك، أتحمل هذا الألم أو تلك الإهانة!"
[50] فإحذري تماماً أيتها النفس المختارة، من الظن أنه - في أعمالك ونواياك - أكمل الذهاب مباشرةً إلى يسوع، مباشرةً إلى الله؛ لأنه، إذا رغبت فى البلوغ إليهما بدون مريم، فإن مقاصدك وأعمالك تصبح زهيدة القيمة. ولكن إذا انطلقتِ نحو يسوع بواسطة مريم، فسيكون أسلوب عمل مريم فيكي، وبالتالي سيصبح [أسلوب عملك] سامٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ جداً وجديراً جداً بالله.
[51] وإضافة إلى ذلك، احذري تماماً من أن تغصبي ذاتك على الإحساس والتذوق في كل ما تقولين وتعملين: لتكن كلماتك وتصرفاتك مملوءة من نقاوة إيمان العذراء الذى كان لديها فى هذه الدنيا، وهى سوف تشركك فيه مع الزمن؛ أيتها العبدة الصغيرة الفقيرة أتركي لسيدتك رؤية الله الواضحة، الإنخطافات، الأفراح، الملذات، الثروات [الروحية]، ولا تعتنقي لذاتك إلا الإيمان الطاهر15 الممتليء ضجراً وتشتيتا ومللاً ويبوسة؛ قولي: "نعم، لتكن مشيئتك"، لكل ما تفعله مريم، سيدتي، في السماء: هذا أفضل ما أستطيع أن أفعله حالياً؛...
[52] وأيضاً إحذري تماماً أن تقلقي بشدة إذا كنتِ لا تتلذذي للتو بعذوبة حضور مريم في داخلك. هذه النعمة لا تُعطى للجميع؛ وإذا خص الله بها نفساً لفرط رحمته، فمن السهل عليها أن تفقدها إن لم تكن في كثير من الأحيان أمينة على الإختلاء؛ وإذا إبتُليتِ بذلك ارجعي رويداً واعتذري لمليكتك [فاعلةً ما يلزم للرجوع].

[4- ثمار التعبد الحقيقى فى النفس الأمينة]

[53] التجربة ستعلمكِ أكثر بكثير مما أقوله لكِ، وإذا كنتِ أمينة على القليل الذي قلته، ستجدين في هذه الممارسة غنىً جماً ونعماً لدرجة أنكِ ستندهشين ونفسكِ ستمتليء كلها بالبهجة...
[54] أيتها النفس العزيزة، هيا بنا إذن نعمل ونتدبر بحيث أن - بواسطة ممارسة هذا التعبد بأمانة - نفس مريم تكون فينا لتعظم الرب، وروح مريم تكون فينا حتى تبتهج في الله مخلصها. هذه هي كلمات القديس أمبروسيوس: "لتكن نفس مريم فى كل إنسان حتى تمجد الله؛ ولتكن روح مريم فى كل إنسان حتى تبتهج بالله"16. دعونا لا نظن أن هنالك مجد وسعادة أكبر في السكنى في حضن ابراهيم - الذي هو الفردوس - عنه في حضن مريم، لأن الله وضع فيه [حضن مريم] عرشه17.
[55] هذا التعبد، إذا مورس بأمانة، يعطي ثماراً لا تحصى في النفس. لكن أهم هبة تمتلكها النفوس في هذه الدنيا هي إرساء حياة مريم في نفسٍ بحيث أن ليست النفس هي التي تحيا بل مريم هي التي تحيا فيها18، أو بمعنى آخر: نفس مريم تصبح نفسها. ولكن عندما - بنعمةٍ تفوق الوصف ولكن حقيقية - تكون مريم القديسة ملكة في نفسٍ، فيا لها من عجائب تعملها فيها! بما أنها صانعة العجائب الكبيرة، خاصةً في الداخل، فهي تعمل سرياً فيه [الداخل] خفية بالنسبة للنفس، التي إن عرفتها قد تهدم جمال صنائعها...
[56] وبما أنها في كل مكان عذراء خصبة، فعندما تتواجد في باطن النفس كلها، تجلب معها طهارة القلب والجسد، طهارة النوايا والمشاريع، وخصوبة الأعمال الجيدة. فلا تظنى أيتها النفس العزيزة بأن مريم - التي هي أخصب المخلوقات والتي ذهبت إلى حد أن تلد إلهاً - ستبقى خاملة في نفس أمينة. ستجعلها تحيا بلا هوادة ليسوع المسيح، ويسوع المسيح فيها. "يا بنىّ الذين أتمخض بكم ثانية، حتى يتصور المسيح فيكم"19؛ فإذا كان يسوع المسيح ثمرة مريم في النفس المؤمنة وفي النفوس كافة، فكم بالحرى يكون أيضاً ثمرتها وتحفتها الرائعة فى النفس التي فيها مريم!
[57] وتصبح مريم أخيراً، كل شئ لدى يسوع المسيح بالنسبة لهذه النفس: فهى تنير روحها بإيمانها الطاهر وتعمق قلبها بتواضعها، توسعه وتشعله بمحبتها، تطهره بطهارتها، وترقيه وتوسعه بأمومتها. ولكن أية فائدة من الاستطرادات؟ فليس إلا التجربة هي التي تعلمنا عجائب مريم هذه، التي تبقى موضع شك فى نظر العلماء والمتكبرين، وحتى فى نظر كثيرين من المتعبدين والمتعبدات...
[58] وبما أن الله جاء في المرة الأولى إلى العالم بمريم، متواضعاً وملاشياً ذاته، أفلا نستطيع القول أيضاً أنه سيأتى ثانية بواسطة مريم، كما تنتظره الكنيسة جمعاء، ليملك على جميع البشر ويدين الأحياء والأموات؟ من يمكنه مستقبلاً، أن يعلم متى وكيف يأتى المسيح؟ ولكن ما أعلمه جيداً هو أن أفكار الله ليست أفكار البشر، بل هى أبعد منها بمقدار بعد السماء عن الأرض20؛ وسوف يأتى الرب في زمن وبطريقة أقل توقعاً عند البشر، حتى لدى أولئك الذين هم أكثر علماً وفهماً للكتاب المقدس الذى هو غامض في هذا الصدد.
]59 [علينا أن نؤمن أيضاً أنه في آخر الأزمنة - ومن الجائز مبكراً عما نظن - أن الله سوف يرسل بشراً عظاما ممتلئين من الروح القدس، ومن روح مريم، ولأجلهم ستأتى هذه السلطانة القديسة بعجائب عظيمة فى هذا العالم، لملاشاة الخطيئة ولإرساء ملكوت يسوع المسيح إبنها على مملكة هذا العالم الفاسد؛ إنه عن طريق هذا التعبد للعذراء الفائقة القداسة - الذي أحاول أن أصفه وأنقصه بسبب ضعفي - سيتغلب هؤلاء القديسون على كل شيء...

]5- الممارسات الخارجية [
]60] هناك ممارسات خارجية، لهذا التعبد المريمى، تضاف إلى الممارسات الداخلية السابق ذكرها، ولا ينبغى إهمالها أو تجاوزها...
]أ- التكريس وتجديده [
]61 [الأولى هي أن نعطي ذاتنا ليسوع المسيح في يوم مميز بين يدي العذراء مريم جاعلين أنفسنا عبيداً لها ونتناول في هذا اليوم لهذا الغرض ونقضيه في صلوات. إن هذا التكريس يجدد مرة في السنة على الأقل في نفس اليوم.
]ب- تقدمة إكراماً للعذراء القديسة [
[62] إن الممارسة الثانية، قوامها إكراما بسيطاً يقدم للعذراء القديسة في نفس اليوم من كل عام، تعبيراً عن عبوديتنا لها وتعلقنا بها. لقد كان العبيد دائماً يكرمون أسيادهم على هذا المنوال. غير أن هذه التقدمة هي إماتة أو صدقة، أو حج مقدس [إلى مزار مريمى] أو تلاوة بعض الصلوات.
يقول القديس دميانوس عن شقيقة الطوباوى مرتينوس بأنه كان كل سنة وفى اليوم ذاته، يضرب نفسه بالسوط21 علناً أمام مذبح السيدة العذراء: إننا لا نطالب ولاننصح بهذا التصرف، وإن كنا لا نعطي لمريم إلا القليل، فلتكن تقدمتنا لها على الأقل بقلب ملؤه التواضع والعرفان الجمّ...
]ج- الاحتفال الخاص بعيد البشارة [
]63 [الممارسة الثالثة هي أن نحتفل كل سنة بتقوى خاصة بعيد البشارة [25 مارس] الذي هو العيد الأساسي لهذا التعبد، [هذا العيد] أُرسي كي نكرم ونتمثل بخضوع الكلمة الأزلي [للعذراء مريم] الذي وضع نفسه فيه هذا اليوم حباً بنا...
]د- تلاوة صلاة "الأكليل الصغير" و "تعظم نفسى الرب" [
]64 [إن الممارسة الرابعة الخارجية، هى أن نتلو كل يوم - بدون فرض يؤدي إلى خطيئة إذا أهملناها -صلاة "الإكليل الصغير" للسيدة العذراء، المكون من "ثلاث مرات الابانا" و "أثنتى عشرة مرة السلام الملائكى"22، مع تلاوة نشيد العذراء "تعظم نفسى الرب" في كثير من الأحيان – وهو النشيد الوحيد الذي نملكه من العذراء - وذلك شكراً له على احساناته، جاذباً نعماً جديدة23؛ وخاصة لا يجب أن ننسى تلاوة هذا النشيد بعد المناولة المقدسة وذلك كفعل شكر؛ كما يقول لنا العلامة جرسون (Gerson) بأن القديسة مريم عينها كانت تصليه بعد المناولة...
]ه- حمل السلسلة الصغيرة [
]65 [قوام الممارسة الخامسة أن نحمل سلسلة صغيرة مباركة فى أعناقنا، أذرعنا، أرجلنا أو عبر الجسد. هذه الممارسة ممكن تماماً أن تُحذف، وهذا لن يمس جوهر هذا التعبد؛ ولكن احتقارها وإدانتها له عواقب وخيمة وإنه من الخطر إهمالها... هذه هي الأسباب التي تدفعنا لأن نحمل هذه العلامة الخارجية: 1- للوقاية من السلاسل البشعة للخطية الأولى وللخطايا الحالية التي تُكبلنا؛ 2- حتى نكرم حبال وروابط الحب التى أراد ربنا [يسوع المسيح] أن يوثق بها هو حتى يجعلنا حقاً أحراراً؛ 3- كما أن هذه الروابط هي روابط محبة، "إني إجتذبهم بربط الحب" [هوشع11، 4]، إنها تذكرنا أننا يجب أن نقوم بكل عمل من أعمالنا بدافع من هذه الفضيلة فقط؛ 4- هذه العادة، عادة حمل هذه السلسلة، هدفها تذكيرنا بمريم وبكوننا عبيداً لها.
إن شخصيات مهمة كثيرة قد جعلت ذاتهاعبدةً ليسوع ومريم قدرت هذه السلاسل لدرجة إستيائهم لعدم استطاعتهم جرّها علانيةً في أرجلهم كما يفعل العبيد24.
يا لها من سلاسل ذات قيمة ومجد أكثر من قلادات الأباطرة - التي هي من ذهب وأحجار كريمة - لأنها تربطنا بيسوع المسيح وبأمه القديسة وهما الخاتم والشعار المجيدان لهذه السلاسل.
علينا أن نلاحظ أنه من المفضل أن هذه السلاسل إن لم تكن من فضة أن تكون على الأقل من الحديد لأن ذلك ملائم أكثر.
لا يجب أن تفارقنا أبداً أثناء حياتنا حتى تصحبنا إلى يوم الدينونة. يا له من فرح ومجد وانتصار للمؤمن العبد عندما تقوم من الأرض عظامه يوم الدينونة وهي مازالت مكبلة بسلاسل العبودية هذه التي لن تكون قد إهترأت! إن هذه الفكرة وحدها بإستطاعتها زرع حَميّة قوية في نفس العبد المتعبد حتى لا يتخلص منها [السلاسل] أبداً مهما كانت مزعجة للجسد.
]ملحق [
]صلوات إلى يسوع وإلى مريم [
[صلاة إلى يسوع]
]66] يا يسوعي المحبوب، دعنى أتوجه إليك معبراً لك عن عرفاني بالجميل الذي أنا فيه، على تلك النعمة التى وهبتنى إياها: وهبتني لأمك القديسة عن طريق تعبد "العبودية [لمريم]"، حتى تكون محامية عنى أمام عظمتك، وعضدي الدائم فى شقائى التام. واحسرتاه، يا رب، أنا بائس لدرجة أني بدون والدتك الطيبة سأكون بلا ريب ضالاً. أجل إن مريم ضرورية لي أمامك في كل مكان: ضرورية حتى تخمد غضبك العادل لأني أسأت إليك كثيراً في كل يوم؛ ضرورية لتُلاشى قصاصات عدلك الأبدية التى أستحقها؛ ضرورية حتى أنظر إليك، أكلمك، أصلي لك، أقترب منك وأجد حظوة عندك؛ ضرورية لأجل خلاص نفسى وخلاص الآخرين؛ وبكلمة واحدة ضرورية حتى أتمم مشيئتك القدوسة، والسعى الدائم لمجدك الأكبر.
آه! يا ليتني أستطيع أن أنشر في الكون كله الرحمة هذه التى منحتنى إياها! فليعلم جميع البشر أنه لولا مريم لأدركنى الهلاك! وحبذا لو تمكنت من القيام بأفعال شكر تليق بك، لقاء هذا الإحسان العظيم الذى خصصتنى به! مريم فى داخلي، "هذا ما حظيت به" [مز119، 56]. آه! يا له من كنز! وآه! يا لها من تعزية! وهل أقدر حياله ألا أكون لمريم بجملتى؟! آه! يا له من نكران للجميل يا مخلصي الحبيب! اجعلني أموت بدلاً من أن يأتيني هذا الشقاء: لأني أفضل أن أموت بدلاً من أن أحيا بدون أن أكون كليةً لمريم.
لقد اتخذت مريم، آلاف المرات، كخيرى الوحيد، مع يوحنا الحبيب على أقدام الصليب، وقدمت لها ذاتى بكليتها مراراً؛ وإذا كنت لم أقمْ بذلك، وفق رغباتك يا يسوعى المحبوب، فإنى من جديد أفعله، كما يروق لك؛ فإن وجدت، فى نفسي وفي جسدي أي شيئا لا ينتمي لهذه الملكة السامية، فإنى استحلفك اقتلاعه وقذفه بعيداً عني، لأنه إذا لم يكن لمريم، لن يليق بك.
]67 [ فيا أيها الروح القدس، هبنى كل هذه النعم، وأغرس فى نفسي مريم المحبوبة، شجرة الحياة الحقيقية، وغذها واعتن بها لكى تنمو وتزهر، فتثمر ثمار الحياة الوافرة. يا أيها الروح القدس، أعطنى تعبداً كبيراً وميل كبير نحو عروسك الإلهية، وسنداً كبيراً على حضنها الأمومي، ولجوء متواصل إلى رحمتها، حتى فيها [مريم] تُكّون فىّ [روحياً] يسوع المسيح كبير وقويّ، كما كوّنته طبيعياً [جسدياً فى أحشائها]، حتى يبلغ ملء القامة التي توافق كماله. آمين.
[صلاة إلى مريم]
[لعبيدها الأمناء]
]68 [ السلام عليك يا مريم، ابنه الآب الأزلى العزيزة؛ السلام عليك يا مريم، يا أم الابن العجيبة؛ السلام عليك يا مريم يا عروس الروح القدس الأمينة؛ السلام عليك يا مريم يا أمي العزيزة، معلمتي المحبوبة وسلطانتي القديرة، السلام عليك يا فرحى، ومجدى وقلبى ونفسي! أنت لى بجملتك من قبيل الرحمة، وأنا لك بكليتى من قبيل العدل. وأظن بأنى حتى الآن لم أهبك ذاتى كاملةً تماماً: لذا فإنى أجدد إعطاءها لك بصفة عبد دائم، بدون أن احتفظ بشئ لى أو لسواى.
فإذا رأيت أيضاً فىّ شيئا ليس ملكك، فأرجوك كل الرجاء أن تأخذيه الآن، وتكونى السيدة المطلقة على إراداتى، فتبددى وتقتلعي وتلاشي من كيانى كل ما لا يرضى الله، وتغرسى وتربي وتباشري فيه ما يحلو لكِ.
فليلاش نور إيمانك ظلمات عقلى؛ وليحل تواضعك العميق محل كبريائى؛ ولتوقف مشاهدتك السامية تشتيت مخيلتي الشاردة؛ ولتملأ رؤيتك الدائمة لله ذاكرتى من حضوره؛ وليوسع ويلهب حريق محبة قلبك فتور قلبى وبرودته؛ ولتكن فضائلك بديلا عن خطاياى؛ ولتجملنى استحقاقاتك معوضة عني [عن نقائصى] أمام الله. وأخيرا، إذا كان مستطاعاً لديك، يا أمى العزيزة والحبيبة، فلا يكن لى عقل سوى عقلك لأعرف به المسيح ورغباته الإلهية ولا يكن لى نفس إلا نفسك لكى أسبح وأمجد الرب؛ ولا يكن لى قلب إلا قلبك لأحب الله محبة طاهرة وحارة نظيرك.
[69] فأنا لا أسألك رؤى وكشوفات خاصة، ولا ملذات ولا أفراحاً حتى روحية. فلك وحدك أن ترين بوضوح بدون ظلمات؛ ولكِ وحدك أن تتذوقى بملء بدون مرارة [العذوبات الروحية]؛ ولك وحدك الإنتصار المجيد عن يمين ابنك فى السماء، دون أي إهانة؛ كما لكِ السلطان المطلق على الملائكة والبشر والشياطين، دون مقاومة. وأخيراً يحق لك أن تتصرفى كما تريدين، وبلا تحفظ، بكل خيرات الله.
فيا مريم المؤلهة، أنظرى إلى الحظ الجزيل الصلاح الذى خصك به الرب، ولن ينزع منك أبداً؛ وهذا ما يملأنى بفرح كبير. أما ما يتعلق بى شخصيا، أنا العائش على وجه هذه الأرض، فانى لا أبتغى شيئا آخر، إلا ذاك الذى حصلتِ عليه، أى: الإيمان الطاهر، بدون تذوق ولا رؤية؛ والألم بفرح، بدون عزاء من المخلوقات؛ ونكران الذات الدائم؛ والعمل الجدى حتى الممات لأجلك، بلا نفع شخصى، كأحقر عبيدك. إن النعمة الوحيدة التى أطلبها بدافع رحمة خالصة منكِ، هى أن أردد كل يوم، وكل لحظة من حياتى ثلاث مرات "آمين": "آمين" لقاء كل ما صنعته لما كنت عائشة على وجه هذه الأرض؛ "آمين" لكل ما تفعلين حالياً في السماء؛ "آمين" لكل ما تفعلين في نفسي حتى لا يبقى سواك من يمجد فىّ يسوع تمجيداً كاملاً طوال الزمن، ومدى الأبد. آمين.

رعاية ونمو شجرة الحياة
أو بمعنى آخر
كيف نجعل مريم تحيا وتملك فى نفوسنا

]أ- العبودية الحبية المقدسة. شجرة الحياة [
]70 [ أيتها النفس المختارة، هل أدركت حتى الآن كل ما قلته لك بإلهام من الروح القدس؟ اشكرى الله على ذلك! إنه سرّ يجهله غالب الناس تقريبا. إذا كنتِ وجدتِ الكنز المخفى فى حقل مريم، لؤلؤة الإنجيل25 الغالية، فعليكِ أن تبيعى كل ما تملكينه، وتبتاعى هذه الجوهرة؛ يجب أن تقربى ذاتك ذبيحة حب بين يدى العذراء القديسة، وتتلاشي فيها مغتبطة بغية الحظوة بالله وحده.
إذا زرع الروح القدس فيك شجرة الحياة الحقيقية، التى هى التعبد الحقيقى الذى أوضحته لك سابقا، فقد بات عليك الآن أن تهتمى جدياً برعايتها، حتى تعطيك ثمرها فى أوانها. أن هذا التعبد هو "حبه الخردل"26 التى يتحدث عنها الإنجيل، بالرغم من كونها أصغر البذور، تصبح شجرة عظيمة، ويمتد جذعها عالياً جداً حتى إن طيور السماء – أي المختارين – تعشش فيها وتستظل من حرارة الشمس وتختبيء فيها بأمان حيال الحيوانات المفترسة.

]ب كيف نراعي شجرة الحياة؟ [
إليك، أيتها النفس المختارة، أسلوب رعايتها:
]71 [ 1- هذه الشجرة، كونها مزروعة فى قلب شديد الأمانة، تود أن تكون عرضة للرياح27 بدون أى سند بشرى؛ هذه الشجرة، كونها إلهية، تريد أن تبقى دائما بدون وساطة أي مخلوق يحول دون ارتقائها إلى مصدرها، الذي هو الله. لذلك، علينا ألا نعتمد على وسائلنا البشرية أو على مهاراتنا الطبيعية المحض أو على دالة أو سلطة بشرية: علينا أن نلجأ إلى مريم وأن نعتمد على معونتها.

]72 [2- إن النفس التى غُرِست فيها هذه الشجرة يتوجب عليها، كبستانى جيد، ألا تكلّ بأن تحرسها وتراقبها. لأن هذه الشجرة - كونها حية ومستوجب عليها إنتاج ثمرة حياة - تحتاج إلى رعاية ونمو، وذلك بالنظرة [الداخلية] للنفس وبمشاهدتها المتواصلتان؛ تلك هى نتيجة سعى نفس كاملة: أن تتفكر دائماً في ذلك وأن يكون هذا هو شغلها الشاغل.
]73 [ويجب اقتلاع وقطع الحِسك والشوك اللذان، مع مرور الزمن، يمكن أن يخنقا هذه الشجرة أو يمنعاها أن تأتي بثمرها: هذا يعني أننا يجب أن نكون – بالإماتة والتغصب – أمناء على قطع وفصل كل الملذات الغير نافعة والإهتمامات الباطلة بالمخلوقات، بمعنى آخر صلب الجسد28، وحفظ الصمت وإماتة الحواس.
]74 [3- وينبغى السهر على تلك الشجرة لئلا تؤذيها الحشرات الضارة. إن هذه الحشرات هي حب الذات وحب الرفاهية اللذان يأكلان الأوراق الخضراء والآمال الجميلة التي لدى الشجرة للإثمار: لأن حب الذات وحب مريم لا يتفقان أبداً.
]75 [4- وينبغي ألا نترك الحيوانات أن تقترب منها. هذه الحيوانات هي الخطايا التي ممكن أن تسبب الموت لشجرة الحياة بمجرد لمسها: يجب ألا تدانيها حتى أنفاس هذه الحيوانات، أى الخطايا العرضية التى توقع ضرر جسيم بها إذا تغاضينا عنها...
]76 [ 5- وينبغى على الدوام، إرواء هذه الشجرة الإلهية بمناولاتنا وقداديسنا وصلواتنا العامة والخاصة29 لئلا تنقطع هذه الشجرة عن حمل ثمارها.
]77 [6- وينبغي ألا نحزن إذا هبت عليها [شجرة الحياة] الرياح وهزتها، لأنه من الضروري أن تهب رياح التجارب رغبةً منها في إيقاعها و[من الضروري] أن تحوطها الثلوج والصقيع لضياعها؛ معنى ذلك أن هذا التعبد للعذراء القديسة سيُهاجم بالضرورة ويُعارض؛ ولكن إذا ثابرنا على رعايتها [شجرة الحياة] فلا خوف من شيء.

]ج- ثمرها الدائم: يسوع المسيح [
]78 [أيتها النفس المختارة، إذا كنت ترعين هكذا شجرتك، شجرة الحياة التى غرسها في نفسك حديثاً الروح القدس، فإنى أؤكد لكِ أنها في وقت قصير ستنمو هكذا عالياً حتى أن طيور السماء ستسكن فيها، وسوف تصير إلى درجة هكذا عالٍية من الكمال أنها ستعطي في وقتها ثمر النعمة الكريم، أي يسوع المسيح المحبوب والمعبود الذى كان وسيبقى ثمرة مريم الوحيدة.
إنها لسعيدة حقا تلك النفس التى غُرِست فيها مريم، "شجرة الحياة"؛ وأسعد منها هي التى نمت فيها [هذه الشجرة] وأزهرت؛ وأشدها سعادة تلك التى أعطت بها ثمارا! ولكن الأوفر غبطة بينهن جميعاً هي التي تذوقت طعم هذه الثمرة الإلهية واحتفظت بها حتى الممات، وإلى دهر الدهور. آمين.
"من يمسك فليمسك"30
فعل تكريس الذات ليسوع المسيح،
الحكمة المتجسدة،
على يدى مريم31
[223] أيتها الحكمة الأزلية المتجسدة! يا يسوع المحبوب والمعبود للغاية، الإله الحقيقي والإنسان الحقيقى، الابن الوحيد للآب الازلى ولمريم الدائمة البتولية!
إنى أعبدك من صميم القلب وأنت فى حضن أبيك وفي بهاءه، مدى الأبدية، وفى حضن أمك مريم البتول الجزيلة الكرامة، مدى زمان تجسدك.
إنى أشكرك لأنك لاشيت ذاتك بإتخاذك صورة العبد حتى تنتشلني من عبودية الشيطان القاسية.
وإنى أمدحك وأمجدّك لأنك رضيت أن تُخضع ذاتك في كل شيء لمريم أمك القديسة، حتى تجعل مني بواستطها عبدك الأمين. ولكني، للأسف! ناكراً الجميل وغير أمين، لم أحتفظ بنذوري ومواعيدي التي عاهدتك بها علناً عند معموديتي: إنى لم أوفي بالتزاماتي؛ لا استحق أن أُدْعَى لك إبناً ولا عبداً؛ و، بما أنه كل شئ عندي يستحق نفورك وغضبك مني، فإنى لم أعد أجسر أن أدنو بنفسى من جلالك المقدس المهيب.
لأجل ذلك، ألتجئ إلى شفاعة ورحمة أمك الكلية القداسة التى أعطيتني إياها وسيطة لديك؛ وأترجى أن أنال منك بواسطتها: الندامة ومغفرة خطاياى، اقتناء الحكمة الإلهية والمحافظة عليها.
[224] السلام عليكِ إذن، يا مريم الطاهرة، يا خدر الألوهة الحي، حيث الحكمة الأزلية المكنونة تريد أن يعبدها الملائكة والبشر.
السلام عليكِ، يا سلطانة السماء والأرض، التى يخضع لسلطانها كل ما فيهما دون الله.
السلام عليكِ، يا ملجأ الخطأة الأكيد، حيث الرحمة لا تفوت أحداً؛ استجيبي لرغباتي في [الحصول على] الحكمة الإلهية، وتقبلى لذلك النذور والتقدمات التى تقدمها حقارتي.
[225] أنا، ...، الخاطيء الغير أمين، أجدد وأُقرّ اليوم بين يديك، مواعيد معموديتي: أجحد الشيطان إلى الأبد، إغراءاته وأعماله، وأسلم ذاتي كاملة ليسوع المسيح، الحكمة المتجسدة، لكى أحمل صليبى وأتبعه طول أيام حياتي، وذلك حتى أكون أميناً له أكثر مما كنت عليه حتى الآن.
اختارك اليوم، في حضرة البلاط السماوي كله، كأمى وسيدتى. أسلم وأكرس لك، كعبد، جسدى ونفسي، خيراتي الداخلية والخارجية، حتى قيمة أعمالي الجيدة الماضية، الحاضرة والمستقبلة، تاركاً لكِ الحق الكامل والتام في التصرف بي وبكل ما أمتلكه، دون إستثناء، كما يروق لكِ، لمجد الله الأعظم في الزمان وفي الأبدية.
[226] إقبلي أيتها البتول الكلية الطيبة، هذه التقدمة الصغيرة، تقدمة عبوديتي، على شرف وبإتحادي بخضوع الحكمة الأزلية لأمومتك32؛ إكراما للسلطان الذي لكما عليّ أنا الدودة الصغيرة والخاطئ المسكين، وشكراً للإمتيازات التي خصك بها الثالوث الأقدس.
وإني أعلن أنني أريد من الآن فصاعداً أن أسعى، كعبدك الحقيقي، إلى كل ما يعود لإكرامِك، وأن أطعيك في كل شئ.
يا أمي العجيبة! قدمينى لإبنك العزيز بصفة عبدٍ إلى الأبد، حتى، كونه فداني بواسطتك، يقبلني [أيضا] بواسطتك.
[227] يا أم الرحمة! انعمي عليّ بالحصول على حكمة الله الحقيقية، وبإحصائي إذن في عداد الذين تحبينهم، تعلمينهم، تقودينهم، تقيتينهم وتزودين عنهم كأبنائك وخدامك.
أيتها العذراء الأمينة، إجعليني في كل شئٍ تلميذاً ومقتدياً وعبداً للحكمة المتجسدة يسوع المسيح إبنكِ، وذلك بدرجة كمال تسمح لي أن أبلغ، بشفاعتك وعلى مثالك، ملء قامته على الأرض، وأن أصل إلى ملء مجده في السماء.آمين.

الفهرس

مقدمة المترجم

سر مريم

مقدمة (1 2)
الفصل الأول : ضرورة التعبد الحقيقى لمريم
أ - أن نعمة الله هى ضرورة مطلقة (3 5)

ب- إذا شئنا الحصول على نعمة الله، علينا أن نجد مريم (6 22)

ج- التعبد الحقيقي للعذراء القديسة هو ضروري (23)

الفصل الثانى : بِمَ يقوم التعبد الحقيقى لمريم؟

أ - هناك تعبدات حقيقية كثيرة للعذراءالقديسة (24 27)
ب- الممارسة الكاملة للتعبد لمريم
1- ما مقومات هذا التعبد ؟ (28 34)

2- امتياز هذه الممارسة (35 42)

3- المضمون الباطني لهذا التعبد وروحه (43 44)

العمل مع مريم (45 46)

العمل في مريم (47)

العمل بمريم (48)

العمل لمريم (49 52)

4- ثمار التعبد الحقيقى فى النفس الأمينة (53 59)

5- الممارسات الخارجية (60)
أ- التكريس وتجديده (61)
ب- تقدمة إكراماً للعذراء القديسة (62)
ج- الاحتفال الخاص بعيد البشارة (63)
د- تلاوة صلاة "الأكليل الصغير" و "تعظم نفسى الرب" (64)
ه- حمل السلسلة الصغيرة (65)
ملحق
صلوات إلى يسوع وإلى مريم
صلاة إلى يسوع (66 67)
صلاة إلى مريم لعبيدها الأمناء (68 69)
رعاية ونمو شجرة الحياة أو بمعنى آخر كيف نجعل مريم تحيا وتملك فى نفوسنا
أ- العبودية الحبية المقدسة. شجرة الحياة (70)
ب - كيف نراعي شجرة الحياة؟ (71 77)
ج- ثمرها الدائم: يسوع المسيح (78)
فعل تكريس الذات ليسوع المسيح، الحكمة المتجسدة، على يدى مريم (223 227)


1 الله موجود في كل كائن وجوداً جوهرياً، إذ أنه هو الذي يبقيه في الوجود. إذا إعتبرنا أن هنالك نفس في جهنم، فنستطيع أن نقول مجازاً أن الله، الذي يبقيه في الوجود، موجود في هذا المكان. فبهذا المعنى على الأقل، ممكن أن نفهم ما يعني الكاتب بقوله أن الله موجود في جهنم.
2 إذا كان القديس بولس قد استطاع القول : "أنه ليس هو الذى يحيا بل المسيح يحيا فيه"، فكم بالحرى مريم لم تعد هى التى تحيا، بل المسيح وحده يحيا فيها.
3 انظر : "السر المريمى" : 10 و35؛ و"التعبد الحقيقى لمريم" : 23-25.
4 "إرضائية": هي القدرة على إرضاء الله أوالحصول على نعمة منه، وهي تدل على دالة الإنسان عند الله.
5 يعتبرالقديس أن العبودية القسرية تتعارض مباشرة مع المباديء المسيحية، بينما هذا ليس هو الحال عند الأتراك والوثنيين كما كان العُرف السائد في أيامه.
6 في التقليد الكنسي لتفسير الكتاب المقدس من الممكن تطبيق "الحكمة" إما على يسوع المسيح أو على العذراء مريم. كما نرى في هذا المقطع قد قرأ أيضاً القديس مونفور أسفار الحكمة بهذا المفتاح التفسيري.
7 مز90، 7.
8 1تيمو6، 20.
9 2تيمو1، 12.
10 القديس برناردس، “Inter flores”,cap. 135, “De Maria Virgine”, page 2150 .
11 روم8، 21.
12 مز18، 6.
13 السلسلة علامة لتكريس الذات للعذراء مريم كاملةً كعبيدها. السلسلة علامة العبودية. هذه العادة اندثرت ولا تمارس اليوم.
14 لو8، 16؛ 11، 33؛ مت5، 15.
15 يقصد القديس مونفور بلفظ "الإيمان الطاهر" الإيمان الذي يخلو من التعزيات ومن السعي إليها والذي يرتكز - للذهاب إلى الله - على الله فقط؛ والله غير محسوس. عندما يختار الإنسان "الإيمان الطاهر"، أي إيمان العذراء، يبيت إذن على حاله الطبيعي (ضجر، تشتيت، ملل، يبوسة) بدون أي تعزية. تعمل إذن نعمة الله في عمق قلبه ولا يشعر بها بالضرورة بحسه.
16 أنظر: القديس امبروسيوس فى تفسيره لإنجيل لوقا: 2، 26 (أنظرسلسلة الآباء اللاتين، ج15، عامود 1642).
17 أنظر لو16، 22 – 23.
18 أنظر غل2، 2.
19 غلاطية 4، 19.
20 أش55، 8 – 9.
21 ضرب الذات بالسوط فعل من أفعال الإماتة وهو غير إجباري؛ إنه منتشر أكثر في الغرب.
22 صلاة "الإكليل الصغير" هي صلاة متداولة في أيام القديس مونفور، عبارة عن صلوات قصيرة موجهة للعذراء مريم يتخللها تلاوة ثلاث مرات "أبانا الذي" و"إثنتي عشر مرة "السلام الملائكي". هذا التدريب التقوي غير متداول اليوم في كثير من بقاع الأرض، ومن الممكن إستبداله بتلاوة بداية المسبحة الوردية وسر واحد منها.
23 القديس مونفور يشير هنا إلى نقطة مهمة جداً وهي أن تقديم الشكر للرب على نعمه له مفعول جمّ على حياتنا الروحية، إذ أنه يفتح أعيننا على نعم كثيرة لا ندركها (وهي مُعطاة لنا وليست من المُسَلّمات)، فهذا يدفع الله على منحنا نعماً لا تخطر على قلب بشر.
24 لم تكن قد ألغيت العبودية في زمن القديس مونفور، وفي بعض البلاد كانت هناك عادة أن يكون العبيد مكبلين بسلاسل يجرونها.
25 مت13، 46.
26 مت13، 31 – 32.
27 "عرضة للرياح" مقصود بهذا اللفظ أن الشجرة ليست مُسيجة وليس لها عصاة تسندها.
28 غل5، 24.
29 "الصلوات العامة" هي التي تقام مع الجماعة أي في الكنيسة، و"الصلوات الخاصة" هي التي تتلى فردياً في المنزل.
30 2تس2، 7.
31 نورد هنا فعل التكريس هذا نظراً لأهميته. وهو مأخوذ من كتاب القديس مونفور: "حب الحكمة الإلهية" رقم 223 – 227.
32 كما خضع المسيح الرأس للعذراء مريم، كجسد المسيح، نتمثل به ونتبع نحن نفس المنطق ونخضع أيضاً لها.