الاثنين، 25 مارس 2013

٣- مدخل الى الحياة الروحية - ج


٢٥- ما هي وسائل تقوية 
"الإرادةفي الحياة الروحية؟

إن هذا سؤال في غاية الأهمية، لأنه يشير إلى ضعف الإرادةقبل الإجابة عليه أريد توضيح بعض المفاهيمأولاًما هي الإرادة؟ وهل الإرادة هي القدرة الوحيدة في النفس أم هنالك قدرات أخرى؟ وما حال القدرات في الإنسان الذي يبدأ الطريق الروحي؟القديس بولس يقول "تفعلون ما لا تريدون" (غل 5، 17)، وأيضاً في رسالته إلى أهل روما يقول: "لأن ما أريده من الخير لا أعمله بل ما لا أريده من الشر إياه أعمل". (غل7، 19). من هذا الكلام يتضح لنا تعريف عملي وبسيط للإرادةهي قدرة من قدرات النفس التي تجعلنا نقوم بالأفعال اليومية، فهي تختلف عن العقلالعقل يملي علينا ما نريد أو نتمنى أن نفعل، ولكن القدرة التي تقوم بالفعل هي الإرادةالعقل من ناحيته يعرف ما هو صواب وما هو خطأ، إذ بعينه قد يراه ولكن ليس في حوزته أن يطبق ما يراه صواباً و يتفادى مايراه خطأإنها الإرادة هي التي تقوم بالأفعالإن كلام القديس بولس لايشير إلى القدرتين فقط (العقل والإرادة)، ولكنه أيضاً يوضح لنا مرض الإرادة، وليس فقط ضعفها، والهوة التي تفصل بين ما يراه الإنسان في فكره وما يقوم به بالفعل بإرادتهنضيف إلى ذلك أن الفكر نفسه لا يعرف دائماً إرادة الله حتى لا يظن الناس أن عقل الإنسان صافٍ ومُلم بكل وصايا الرب.
في الواقع، السؤال الحقيقي أصعب من طلب لمعالجة الإرادة الضعيفةإذ إن الإرادة ليست ضعيفة فقط ولكنها مريضة ومفككةو يضاف لذلك أيضاَ ضعف العقل وتشتيته، وعدم طهارته، و أخيراً الهوة الواقعة بين العقل والإرادة التي تشير إلى المسافة بين ما يفكره العقل وما تفعله الإرادة.
علينا إذن معالجة العقل والإرادة وليس الإرادة فقط، حتى وإن كان يظهر من كلام القديس بولس أن الإرادة هي فقط التي لا تعمل جيداًوفي سياق معالجة هاتين القدرتين يعالج أيضاً تلقائياً التناسق بينهما لأن الله لا يشفي واحدة دون الأخرى، لأن كل ما يشيره لنا الله في العقل هو الذي ستطبقه الإرادة بنعمة الرب.
عملية الإصغاء الكاملة لكلام المسيح الذي هو روح وحياة هي في آنٍ واحد 60% من عملية شفاء العقل و الإرادة، لقد أسمينا هذه العملية "صلاة الإصغاء". لو عرفنا كمؤمنين فوائد صلاة الإصغاء و قدرتها على تغيير الإنسان وشفائه لإجتمعت الكنيسة كلها وجمعت طاقاتها حول هذه العمليةولكونها في غاية الأهمية فقد وضعها الله في الجزء الأول من القداسمائدة الكلمة.
إن عملية الإصغاء هي بمثابة أكل وجبة "كلمة اللهلنافإن من يمارس عملية الإصغاء يتحقق من تغيير فعلي في إرادته يوماً بعد يوم ويشهد لمعجزة حقيقية يوميةإذ إن في عملية الإصغاء يضيء المسيح القائم من بين الأموات بكلام محدد عقل المؤمن بكلمة تخرج من فمهِويتمنى المسيح المتكلم أن تتجسد هذه الكلمة في إرادة الإنسان وتحيا في أعضائه اليوم صانعة فعلاً جديداً لم يكن الإنسان يفعله من قبل.
بهذه العملية، التناول كلمة جديدة هي روح وحياة، هي نار مغيرة للإنسان اليوم، يتم شفاء الإرادة خطوة بعد خطوة، يوماً بعد يومكما نرى، إذا كان المسيح هو الشافي فبدون الإصغاء من طرف المؤمن وتطبيق الكلام لا يشفى الإنسانوكما نرى الشفاء يتم تدريجياً وليس في خطوة واحدة.
إن في عملية الإصغاء يتولى المسيح نفسه إدارة طريق الرجوع لهذه النفس إلى اللهإنه الطبيب الأوحد يسبرغور الإرادة ويعرف أمراضها ويعرف ترتيب العلاجبما يبدأ وكيف يباشر وكيف ينتهيكثيراً ما يبدأ بالقليل بالطرق الصغيرة، وبالتكرار، حتى يدرب النفس (عقلاً وإرادةحتى ينمو الإنسان الجديد ويشكله بروحه على مثاله حتى يصل إلى ملء قامتهالمسيح هو السيد، سيد النفس، طبيبها الأوحد، ومدبر حياتها الروحيةصلاة الإصغاء تضع المؤمن فعلاً وكليةً بين يدي المسيح، المدبر.
ال 40% الباقية لشفاء الإرادة تعتمد أساساً على فعل التناول في القداس، و إمتداد هذا الفعل في "الصلاة القلبيةأو "صلاة يسوع". إذ أن جسد المسيح محيي، كله مشبع بالروح القدس المحرك الأساسي لعملية التقديسالتقديس هو أيضاً شفاء و تحرير النفس و الروح من أغلال لا تستطيع أي قوة على الأرض فكها.
تشير القديسة تريزا الأفيلية إلى ثمار الصلاة القلبية التي هي إمتداد للمناولة الأخيرة، وتقول إن كثيراً ما يحرر المسيح النفس بروحه في إطار الصلاة القلبية من خطايا أو عادات سيئة (كتاب السيرة، الفصل 7و8).
من الضروري إضافة ملاحظة أساسيةدور القانون أو الفرض في سر الاعتراف دور أساسي إذ أنه يُفّعل نعمة الاعتراف والمصالحةحيث لا يكفي أن ننال الحِل من الكاهن حتى تشفى إرادة الإنسانإن سر الإعتراف هو حقاً عملية شفاء ولكن قلما تكتمل في الإنسان إذ كثيراً ما ينقصها عنصر الفرضففي لاهوت سر الإعتراف كثيراً ما ننسى نعمة الاعتراف و تفعيلهاكثيراً ما نأخذها كالسارق ولا نستثمرهانريح بها ضميرنا مؤقتاً حتى نقع مرة أخرى في نفس الخطيئةفي الواقع إن ضعف القانون أو الفرض أو قلة إرتباطه بنوع الخطيئة، وبالتحديد بالتشخيص الدقيق لضعف الإرادة يضعف الكثير من فاعلية سر الاعترافالكاهن في سر الإعتراف هو أداة حية للمسيح الطبيب الشافي، وتشخيصه لنفس المعترف في غاية الأهمية، ووصفه للدواء عليه أن يتناسب مع التشخيص.
علينا إذن استرجاع دور"سر الاعتراففي شفاء وتقوية الإرادة، وذلك بإحياء مفهومنا للتشخيص والدواء وتطبيق الفرض.
بهذه الثلاث وسائل: "صلاة الإصغاء"و "الصلاة القلبيةو"سر الاعترافلدينا كم هائل من قوة الروح القدس في متناول اليدعلينا بتواضع وحكمة أن نستخدم ما وضعه الله لنا في كنيسته من وسائل فعالة حتى تشفى الإرادة وترتب وتقوى مع العقل في المسيح.
علينا ألا ننسى أن هذا الشفاء يتم بتدرج يوماً بعد يوم، وأن لنا دوراً في هذا الشفاء.

26- كيف نفهم صعوبة "السرعةفي الحياة المعاصرة روحياً؟ مثلاً نلاحظ سرعة الاتصال بالعالم كله، وأحصل على ما أحتاجه بالاتصال والتسوق و أتحدث إلى أي انسانفي حين تأخر الله في الاستجابة، وصعوبة الاصغاء إليه..إلخ.

إن هذا السؤال في غاية الأهمية، لقد أجبت عليه بإيجاز ولكنه يستحق الإفاضة فيهإن لهذا السؤال أبعاداً كثيرة من الضروري تناولها سوية حتى نجد إجابة كافية و متكاملة.
عندما نتكلم عن حياة الإنسان الروحية، علينا أن نتناولها بكل أبعادهاترتكزالحياة الروحية بشكل كبير على المجهود الشخصي والممارسات والعبادات الشخصيةبالتأكيد لا نستطيع فصل العبادة الجماعية الكنسية ("إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم" (مت18، 20 ) من العبادات الشخصية ("ادخل إلى غرفتك واغلق عليك بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء" (مت6، 6) ولا نستطيع إيجاد تناقضاً بينهما بل بالعكس ترتكز الصلاة الجماعية على قدرة كل فرد على الصلاة "بالروح والحق" (يو4، 24) ومنشأ الكنيسة هو قلب الإنسان؛ فعندما يصلي كل إنسان "بالروح والحقأي في المسيح و بالروح القدس تكون الكنيسة.
كما أن الصلاة الجماعية ترتكزعلى إتصال الفرد، المباشر مع الله، كذلك تزدهر صلاة الفرد وتعيش في وسط صلاة الجماعة.
يؤثر الوسط الجماعي تأثيراً هاماً على حياة الفرد الروحية، وهو بدوره يتأثر مباشرةً من البيئة المحيطة والثقافة المتداولة في المجتمعكلما كانت ثقافة المجتمع والوسط الكنسي على مستوى بشري وروحي عالٍ، تأثرت صلاة الفرد الروحية إيجابياً.
إن كل ثقافة وبيئة تحملان أبعاداً روحية ليست دائماً بيّنة للفرد، ولكنه أراد أم لم يرد فهو متأثر بهاومن الأمثلة الكثيرة لهذه التأثيراتسرعة التداول والاتصالفي حين أننا نعتبر اليوم أن التحسن في سرعة الاتصال بين البشر عنصر إيجابي، ننسى أو نتناسى نتائج هذه السرعة على سيكولوجية الإنسان وعلى حياته الاجتماعية وأيضاً على حياته الروحيةنعيش في عصر فيه المعلومة في متناول اليد وبأقصى سرعةلكننا ننسى الفارق الشاسع بين الحصول على المعلومة وقراءتها من ناحية وهضم المعلومة والعيش بها وفيها من ناحية أخرىنعيش في عصر غني بالمعلومات وفقير كل الفقر ثقافياًنكررالحاصل على المعلومة ليس بالذي يعيش بها وفيها، فكثيراً ما نحصل على المعلومة وقلما نهضمها ونعيش بهايميل إذاً عصر المعلومات إلى سراب الثقافة وليست الثقافة بذاتهافسرعة الاتصال بالعالم كله والحصول على ما نحتاجه بالاتصال والتسوق يخلق في الواقع سراباً وليس ثقافةًهذا الفقر الثقافي يضعف قوى الإنسان الثقافية الحقيقية التي هيالتفكر وهضم المعلومة، القراءة والفهم والتحليل، التواصل البشري والتبادل الحقيقي والشعور الفعلي بالآخر.
ليس إزدياد السرعة وتقلص الزمن أمرين قهريين على الإنسانتغير الثقافة تحت ازدياد السرعة يؤدي إلى تسطيح في غاية الخطورةبالطبع كل ذلك يؤثر على حياتنا الكنسية و حياتنا الروحية.
الحياة الروحية الحقيقية تخلق من حولها بيئة ونبضاً روحانيين سرعان ما يجدان نفسيهما في تناقض مع البيئة الاجتماعية المحيطة.
بالطبع حل هذا التناقض لا يأتي بالهروب من العالم، أو كما يظن بعضهم باللجوء إلى الخيمة والمسواك (القلاية والعمل اليدوي). بل الحل هو المعاصرة وليس الهروب، أي أن أعاصر وأواكب التغيير والتقدم ولكن بتمييز وإفرازعلينا أن نأخذ كل ما هو إيجابي في عصرنا هذا ولكن علينا أيضاً ألا نضرب بعرض الحائط حصيلة عشرات القرون من التقدم والثقافة.

عنصر من العناصر الأساسية عند آباء الصحراء وعند القديسة تريزا الأفيلية هو عنصر اللقاء اليومي للرهبان أو الراهباتهذا اللقاء هو بمثابة فسحة ترفيهية يلتقي فيها الراهب مع أخيه الراهب يتجاذب معه أطراف الحديث عما هو عزيز وأساسي في حياته (الله والإختبار الروحي). فكرة الفسحة عند الآباء الرهبان هي فكرة أساسية وحيويةإذا كانت من ناحية ترفه عن الراهب وتخفف من وطأة النسك والتعب الرهباني، فهي من ناحية أخرى مصدر تبادل وتعزية هام جداًفي هذا التبادل يساعد الراهب أخاه الراهب، يشاركه بخبرته الروحية فيتعزى أخوه، ويستفيد روحياً ويتشجعإن في هذا المثل الرهباني لدرس هام جداً لنا اليومفهذه الفترة الزمنية من النهار (الفسحةهي في الواقع بلورة اجتماعية ثقافية للبيئة الضرورية التي تستطيع أن تزدهر فيها حياة الفرد الروحيةنكاد نقول أن الرهبان قد غلبوا العالم بخلقهم هذه الساعة اليومية التي يعيشون فيها هذه الفسحةلقد غلبوا العالم بقوة الروح إذ قد خلقوا خلية صغيرة من الجنة على الأرضمَن فصل حياة الراهب في القلاية عن هذه الفسحة قد ابتعد عن روح التجسد ومنطقه (1يو4، 1 – 2).
إن هذا المثل الذي يوضح لنا العلاقة الوطيدة بين الحياة الروحية للفرد والوسط الثقافي يدفعنا إلى الإعتناء ليس فقط بحياتنا الروحية ولكن بخلق ثقافة روحية تؤثر إيجابياً على الثقافة والوسط المحيط وتغربلها وتحولها وتسمو بها.
ليست الكلمة الأخيرة لسرعة عربتنا أو قطارنا، و لكن هي لسائق القطارالسيد هو الإنسان وليس الأداةإذا خلقت الأداة ازدياداً في السرعة علينا بالتحكم في الأداة والسرعةعلينا أن نمارس عملية تمييز وغربلة للثقافة المحيطة حتى لا نفقد كل ما هو إيجابي في تقدمنا وحتى لا يذهب بنا ثقاقياً إلى الهاوية.
بعد شرح هذه الجوانب العديدة، من الأسهل أن نفهم أن الله لا يتأخر أبداً في الاستجابةفالثقافة السطحية واندماجنا فيها بدون تمييز، يمكن أن يؤديا إلى ابتعادنا عن الله ويعطيانا الإيحاء الزائف أن الله يتأخرصِغر حجم ثقافتنا في تناسب طردي مع صِغر قدرتنا على الإصغاء.
العلاج هو النهضة بالثقافة الاجتماعية و الروحية وليس بالاستسلام البليدعبر التاريخ نستطيع أن نرى أمثلة كثيرة للنتائج الاجتماعية والثقافية لنهضات روحية متعددةمن أبسطها يمكن أن نذكرتهذيب الأخلاق، الهدوء الاجتماعي والسياسي، واحترام النظام والمؤسسات الخدمية والمرافق، وإزدهار الفنون ورقيها بشكل يتناسب مع وصايا اللهبسبب ضعفه وخطاياه ينساق الإنسان بسهولة لشهواته فيقلب النظام الطبيعي للأمور، ويغير الفطرة التي وضعها الله في الإنسان ويشوههالذلك كثيراً ما رأينا عبر التاريخ أن مصدر التغيير الثقافي كان النهضة الروحية المحضة، فهي الوحيدة التي تسمح للإنسان أن ينال قوة الروح القدس المحيي، ويلتقي مع المسيح القائم من بين الأمواتيشفي إذاً المسيح أولاً الفرد، ثم الأفراد المجتمع، الثقاقة والبيئة الإجتماعيةهذه الأخيرة هي ثمرة تتوافق مع حياة هي في آن واحد عقلانية (بحسب العقل وطبيعة الأمورو روحيةفي هذه الحالة تتوافق الثقافة والبيئة الاجتماعية مع حياة روحية جادة ونشطة، ولا يوجد تفاوت بين سرعة هذه و تلك.


27- كيف أميز عمل الروح القدس فيّ؟

أولاً الروح القدس هو هبة الله الأساسية المعطاة للمؤمنين وهو المدبر الأساسي لحياتنابدونه لا توجد حياة روحية فينادوره جوهري في حياتنا المسيحية لذلك سُمي "بإصبع الله" (لو11، 20) إذ به يعمل الله مباشرةً في داخلناإنه المعلم الباطني وعلينا أن نتخذه صديقاً دائماً ونصغي له أقصى الإصغاء ونتبعه بإستمرار في كل خطوات إدارته الباطنية لأحداث يومناإنه بالمعمودية وبالميرون يفتح فينا حواساً جديدة روحية باطنيةحس السمع الروحي، حس النظر، وحس الإحساس (الإلهام أو اليقين الباطني). تنمو فينا هذه الحواس تحت إدارته وهي كقرون استشعار تجعلنا نلمس عن قرب تحركات وتوجيهات الروح القدس لنالا نستطيع أن نشدد كفاية على أهمية الروح القدس الله في حياتنا اليوميةلقد تحتم على المسيح أن يذهب حتى يرسل لنا الروح القدس (يو16، 7) وهذا يشير إلى عِظم وضرورة أهمية الروح القدس في حياتنا اليوميةلقد أسماه المسيح "المُعزي" (يو15، 26) مع أن المُعزي الأساسي هو المسيحولكننا لا نستطيع أن نحصل على المسيح ونجده بدون تدخل الروح القدسفبالروح القدس فقط نرى ونسمع المسيح لأنه يحرك عيوننا وآذاننا الباطنيتين حتى نستطيع أن نراه ونسمعه، لذلك نطلبه دائماً قائلين: "تعالَ أيها الروح القدس". ولا توجد صلاة مسيحية، أي "بالروح والحق"، بدون روح قدس، لأنه يوجدنا داخل المسيح، أمام الآب، ولا صلاة خارج الثالوث.

ثانيا:ً قبل كل شىء علينا أن نعرف ما هو هدف عمل الروح القدس فيناإن هدف عمل الروح القدس فينا هو واحد لاغيرتنمية وتكوين وتصوير المسيح فينا ونحن فيهلا يوجد هدف آخر عند الروح القدس إلا جعلنا ننمو حتى نصل إلى ملء قامة المسيح (أفسس4، 13). إنه الزارع الحقيقي الأوحد الذي يتناول بذرة المعمودية ويعتني بها وينميها ويغذيها حتى تصبح شجرة كبيرةً جداًأي المسيح فيناتحتمي فيها الطيور (مت13، 32) وتثمر ثماراً لاعدد لها، ثمار تبقى للحياة الأبدية (يو15، 16). لذلك المؤمن الذي يريد أن يميز عمل الروح القدس، عليه أن يفهم أولاً قضية هدف الحياة الروحية وقضية الطريق الذي يؤدي إلى هذا الهدف، وخصوصاً عليه أن يعرف أن يميز خطوات وأطوار هذا الطريقلا نستطيع فصل تمييز عمل الروح القدس من معرفة تضاريس الطريق الروحي وأطواره، وذلك لأن كل فعل من أفعال الروح القدس فينا متجه إلى الهدف: "الاتحاد بالمسيحأو"اقتناء الروح القدس". يقيس المميز ما يحدث في حياته اليومية باتجاه بوصلة الفعل الذي يفعله.

إن كل أفعال وتحركات الروح القدس فينا هي لاهوتية، بمعنى أنها تصلنا مباشرةً بالمسيح الذي هو اللهفالفعل اللاهوتي (فعل إيمان، فعل رجاء، فعل محبةيوصلني مباشرةً بالله (اللاهوتأي الطبيعة الإلهية.
لاننسى أيضاً أن المقصود هنا بلفظ "اللههو المسيحكل حركة من حركات الروح القدس هدفها أن توصلنا للمسيح، أو بمعنى أدق أن تشكلنا على مثال المسيحإنه حقاً الروح القدس هو الذي شكل المسيح في أحشاء مريم العذراء، ولا يفعل شيئاً آخر في المؤمنين سوى تشكيل المسيح فيناإن حديث المسيح مع نيقوديموس (يو3، 3) في انجيل يوحنا يقع مباشرةً بعد كلام المسيح عن إعلانه لإعادة بنا هيكل جسده (يو2، 21). كل واحد منا مدعو أن يكون عضواً في جسد المسيح، وحتى يصل إلى ملء قامة المسيح عليه أن يمر عن طريق "ولادة جديدة" (يو3، 5). نحن نعرف أن فترة تكوين الإنسان في بطن أمه تدوم تسعة أشهر، كذلك فترة نمو ونضوج المسيح فينا لها أيضاً فترة تسعة "أشهر". مهندس هذا النمو، كما قلنا، هو الروح القدسالمكان الذي يحدث فيه هذا النمو، ثم هذه الولادة، هو حقاً أحشاء العذراء مريم أيضاًليس هنالك تغيير في منطق عمل اللهفي الواقع كلمات نيقوديموس كانت قريبة جداً من الواقع الروحي، إذ أنه أشار بوضوح شديد إلى ضرورة رجوع الإنسان، وهو كبير السن، إلى بطن أمه (أنظر يو3، 4). إن في نظر المسيح، (وفي نظر يوحناالأم الحقيقية التي يحدث في بطنها هذا النمو وهذه الولادة هي حواء الجديدة، العذراء مريملهذا السبب أعطانا المسيح المتمخض10 على الصليب أحد تعاليمه وأحد وصاياه الأسمى بإعطائه أمه لنا كأم (19، 27).

و ليس انجيل يوحنا إلا وصفاً تفصيلياً لخطوات نمو الإنسان في بطن أمه العذراء مريم حتى تصل الساعة، ساعة الولادة من جديد: "المرأة تحزن إذا حانت ساعتها لتلد، ولكنها حالما تلد طفلها، لاتعود تتذكر عناءها، لفرحها بأن إنساناً قد ولد في العالم" (يو16، 21؛ انظر أيضاً رؤ12، و رومية8، 22).
من المهم على كل من يتبع الروح القدس أن يفهم إطار عملهإنه يعمل في العذراء مريم لأننا فيها، ويشكلنا فيها على صورة المسيح ومثالهلذلك إن من العناصر الأساسية للتمييز الروحي اتخاذ العذراء كأم حقيقية تامة وشاملة، يسلمها الإنسان حياته الروحية وثماره الروحيةلهذا السبب أشار يوحنا الإنجيلي لنا بخطوة روحية ضرورية، عظيم شأنهاأن نأخذ مريم إلى بيتنا:"’هذه أمك’، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى بيته" (يو19، 27).

هذا هو منطق التجسد، منطق يمتد من الرأس إلى الجسد أي من المسيح نفسه إلينا نحن أفراد جسدهالروح القدس الذي يعمل في المسيح هو نفسه الذي يعمل في أعضاء جسده، ومنطقه وأساليبه واحدة هنا وهناكإذا اتخذ الله من حضن العذراء مريم مكاناً لتأنسه بعمل الروح القدس، لا يعقل ألا نتخذ نحن أيضاً من حضن العذراء مريم مكاناً طاهراً يعمل فيه الروح القدس بدون عائق وبكماللذلك، حتى لا تقع حياتنا الروحية خارج العذراء مريم، أو حتى لا ننسى أن نأخذها معنا في بيتنا، حذرنا بشدة القديس يوحنا في رسالته الأولى قائلاً: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح" (1يو4، 1). لأنه يعلم جيداً بضرورة تمييز الروح الذي يقودنا والإلهامات التي تأتينا والأفكار التي تخطر ببالنا والأحاسيس التقوية التي تدفع إرادتنا وعاطفتناإذ أن الحياة الروحية تشبه إنساناً يدخل في غرفة مظلمة يسمع فيها أصواتاً ولكنه لا يعرف مصدرها (يو3، 8). ومن وظائف التمييز الأولى هي كشف مصدر الصوت أي معرفة صاحب الإلهامات، إذ أن أي روح يطير في الهواء ممكن أن يؤثر علينا ويسمعنا صوته، وسماعنا لصوته لا يعني أنه الروح القدسفالروح القدس هو، كما يقوله اللفظ، روح قدوس أي روح الله نفسه المعطى للإنسان، لا يقبل في تعامله بأيّ عائق أو أيّ قذاره أو حتى شائبهلذلك مكانه الأوحد للعمل على تصوير المسيح فينا هو حضن العذراءعملية تصوير المسيح فينا هي عملية طاهرة إلهية لا تستطيع أن تتم إذا كان هناك عائق أو شائبة وحضن العذراء مريم، علمنا أم لم نعلم، هو الوسط الوحيد الذي يعمل فيه الروح القدس عمله المقدس وبشروطه المقدسة كما نراها في هذا السؤاللذلك حثنا بشدة يوحنا الإنجيلي قائلاً: "امتحنوا الأرواح لتعرفوا ما إذا كانت من عند الله أم لا"، وأيضاً "وهذه هي الطريقة التي تعرفون بها كون الروح من عند الله فعلاًإذا كان ذلك الروح يعترف بأن يسوع المسيح قد جاء إلى الأرض في الجسد فهو من عند الله" (1يو4، 1-2).

الاعتراف بالتجسد يعني هنا أن الروح نفسه الذي عمل في التجسد في أحشاء العذراء هو الروح نفسه العامل في المؤمن الذي هو في حضن العذراءلذلك من المنطقي أن الذي يشرع في السلوك في الحياة الروحية ويريد أن ينقاد بالروح القدس، أن يأخذ حضن العذراء مريم مسكناً، متبعاً بذلك منهج الله ومنطقهلقد أعطيت العذراء مريم لكل معمد في معموديتهإن أحد رموز جرن المعمودية هو حضن العذراء مريم، والقنديل (أو الشمعةالذي يضاء بعد المعمودية، علامة للإيمان الجديد للمؤمن، وعلامة لحياته الروحية الجديدة، ولشعلة الروح القدس المتقدة في قلبه، تشير إلى إيمان العذراء مريم بالمسيح، فهي العذراء الحكيمة الوحيدة التي آمنت بما قيل لها من عند الرب والتي تطوبها كل الأجيال (لو1، 48). نصاعة الثوب الجديد الذي يرتديه المعمد تشير إلى طهارة إيمان العذراء ومن ثم إيماننا، لأن إيمان أولاد حواء ينبثق من إيمانها، فحواء الجديدة هي أم الأحياء الجدد.

مع تواجد العذراء مريم منذ أول لحظة في المعمودية، على كل مسيحي يسلك في الطريق الروحي أن يجدد انتمائه لهذا الحضن على مدار اليوم (إن فعل الانتماء هذا فعل يدرب عليه له أصوله وقواعده). فمتى انتمى الإنسان إلى العذراء، أسرع وهرول الروح القدس للعمل فيه، ولإشعال نار محبة الله فيه، ومن ثم الاستطراد في عملية تنمية المسيح فيهفاتخاذنا للعذراء يجذب الروح القدس إلينا كل الجذب.
إن داخل العذراء مريم تبقى شعلة نار الحب مشتعلة دائماً، لا تنخفض ولا تنطفىء، ومن يريد أن يحتفظ بشعلته متقدة فليلجأ إليها والشعلة هي الروح القدس.

ثالثاًصلاة الإصغاء
بما أن الإنسان كائن ذو عقل اختار الله أن يخاطبه بالكلام المفهومعندما خاطب الله الأنبياء خاطبهم بالكلام المفهوم، وعندما تجسد الأقنوم الثاني كلمة الآب وفكره وحكمته، فقد استخدم كلمات بشرية حتى يخاطب بها الإنسان، ولكنه أضفى على هذه الكلمات طابعاً فريداًغلافها الخارجي، أي حرف الكلمة، هو بشري بسيط ومعروف، ومأخوذ من اللغة الآرامية والعبرانية المستخدمة في محيطه الثقافيأما باطنها ومكنونها فهو الروح القدس الرب المحي لذلك قال المسيح إن كلماته هي روح وحياة (يو6، 68 )، أي روح قدس وحياة إلهية فيناعلينا إذاً أن نلاحظ الرابط الجوهري بين كلمات المسيح التي سمعها معاصروه والروح القدسإنه لم يقل إن كلامه فيه روح وحياة ولكن إن كلامه هو روح وحياة، والفرق هنا شاسع والمكنون هام جداًفكما يقول الكتاب إن سلاح الروح القدس هو الكلمة (أف6، 17)، وأيضاً إن بإصبع الله يطرد الشياطين(لو11، 20)، بينما نعرف أنه بكلمة واحدة يفعل ذلكلا نستطيع إذاً أن نفصل كلام المسيح من روح مسحته أي الروح القدسلذلك من أراد أن يميز عمل الروح القدس فيه عليه ألا يفصل، ولا بأي شكل، فهمه للروح القدس وعمله عن فهمه لكلام اللهإن كلام الله هو نار (أع2، 3) أي نار الروح القدسالتمرس في كلام الله والتعرض لأشعة كلام الله القوية هي أول أعمال التمييزيمتحن الإنسان في بوتقة كلام اللهلذلك من أول تدريبات التمييز ممارسة صلاة الإصغاء حتى نسمح للروح القدس أن يدخل فينا بسلاحه، كما يقول الكتاب: " إن كلام الله حي، ناجع، أمضى من كل سيف ذي حدين، يصل في نفاذه إلى ما بين النفس والروح والأوصال والمخاخ، وبوسعه أن يحكم على خواطر القلب وأفكاره، لا يخفى عليه خلق بل كل شيء عار مكشوف لعيني ذاك الذي يجب علينا أن نؤدي له الحساب." (عب4، 12- 13). إن ميزة سيف الروح ليست القدرة على الدخول إلى أقصى أعماق خبايا الإنسان، ولكن أيضاً هي القدرة على التمييز أي الفرز بين شيء وآخرإن عملية التمييز تفرق بين شيئين، وعمل السيف هو أيضاً هذا العمل أنه من ناحية يبعد ما ليس إرادة الله، ومن ناحية أخرى يبرز بتجلٍ أكبر ما هي إرادة الله.
لهذه الأسباب، علينا أولاً أن نشحذ تمييزنا بتمرسنا اليومي على كلام الله.
إن على الإنسان المنقاد بكلمة الله أن يفعل ذلك في إطار التقليد الحي والتفسير الصحيح بحسب آباء الكنيسة، لأن الروح العامل فيه من خلال معاني كلمات الكتاب هو الروح نفسه الذي عمل في الآباءعلى يد الآباء نتعلم تمييز الكلمة فروح الكلمة هو روح الإيمان الذي سكن فيهم وتجلى في شروحاتهم والتلمذة على أيديهم هي تلمذة تمييز.

رابعاًالإسترشاد
من أهم عناصر التمييز التأكيد الذي يأتي به الروح القدس عن طريق المرشدالروح القدس يعمل أولاً فينا ولكننا لا نعمل فيه إلا بعد التثبيت الذي يعطينا إياه عن طريق الإسترشادفإنه لا يوجد فرق بين الروح القدس العامل فينا والروح القدس العامل في المرشدفالروح القدس في المرشد يساعدنا أن نرى ونميز ونفرز الروح القدس العامل فيناقلب الإنسان، كالأرض التي يتكلم عنها المسيح، فيه الزرعة الطيبة وفيه الزوؤان بأشكالهيعمل الروح القدس في الزرعة الطيبة لأنه هو أصلها، ويشير الروح القدس نفسه عن طريق المرشد في قلبنا على عمله فينا ويبعد كل عملٍ ليس عملههذا التثبيت أساسي في الحياة الروحية للحصول على التمييزالتواضع هنا ضروري إذ يجعلنا نبحث عن الروح القدس الذي يكلمنا في الإرشاد الروحيمن ابتعد عن هذا المنطق فقد ضلّ.
التثبيت الذي يأتينا من الروح القدس في عملية الإرشاد يعطينا القوة الكافية حتى نقوم بعمل الله نلاحظ أن العذراء مريم لم تسبح علناً الله إلا بعد التثبيت الذي حصلت عليه من الروح القدس عن طريق نسيبتها أليصاباتقد يظن بعضهم أنه كان من البديهي أن تُسبح العذراء مريم الرب مباشرةً بعد بشارة الملاك ولكن هذا لم يحدث.

28- ما الصليب وما القيامة في الحياة اليومية؟

بادىء ذي بدء لا نستطيع فصل الصليب عن القيامةالمسيح نفسه لم يفصلهما، ففي الأناجيل الإزائية مثلاً (متى ومرقس ولوقايعلن المسيح لثلاث مرات بأنه سيتألم ويموت ثم يقوم: "من ذلك الوقت، بدأ يسوع يعلن لتلاميذه أنه لابد أن يمضي ويتألم على أيدي الشيوخ و رؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم" (مت16، 21). وإذا شاهدنا الصليب، أو بالأصح المصلوب، فقط هذا لا يفرغ عملية الصلب من أبعادها: 1- أبعاد الهية 2- بعد القيامة.
1- أبعاد إلهية: إن المصلوب هو الأقنوم الثاني المتجسد، فالمصلوب بكونه الله يعطي الصليب كل الأبعاد الإلهيةلا ننسى أن المسيح اختار بكل حريته أن يدخل في آلامه وصلبه ولا ننسى أنه في آلامه مازال كلي العلم وكلي القدرة11لذلك كل لحظة من لحظات آلام وصلب المسيح الكلمة هي ممتلئة بقوة خلاص ونصرة لا رجعة فيهالذلك في بعض الطقوس الشرقية يحتفل بانتصار المسيح منذ لحظة موته، لأن الذي مات ليس إنساناً فقط ولكن الإله المنتصر في هذه الطبيعة البشرية.
2- بُعد القيامةيضيف بالتأكيد حدث القيامة على حدث الموت إنتصاراً جليّاًالموت والقيامة وجهان لا ينقسمان من عملية واحدة هي عملية الخلاصالفصح هو في حد ذاته عبور من الظلمة، ومن الموت إلى الحياة مع الله.12

البعد الصوفي لعملية الخلاصإن لعملية الخلاص (آلام وموت وقيامةبُعداً "صوفياًأساسياً بدونه يُفقد المعنى المسيحي للخلاصكلمة "صوفيتشير إلى واقع روحي حقيقي لا تراه العيناللفظ أصلاً موجود باليونانية (ميستيكيهومن ثم مشتقاتها باللغات ذات الجذور اللاتينيةهذا اللفظ يعني "خفيأو "سريلذلك ترجمه بعضهم بلفظ "سريكجسد المسيح السري.
في خميس العهد يأتي المسيح بفعل صوفي، وهو التبادل السري التام بينه وبين كل واحد منا عن طريق المناولةيُعرف الحب بتبادل بذل الذات بين كائنينهذا التبادل يُحدث وحدة (الوحدة أكثر من الاتحاد، ففي الاتحاد مازالا اثنان)، وهذه الوحدة من أعجب العجائب لحب الله – وهي صوفية في ذاتها.
في يوم الجمعة العظيمة يظل المسيح مصلوباً ست ساعات (ثلاث ساعات في الشمس، وثلاثاً بدون شمس). في هذه الساعات يتم فعلاً كل التبادل بين المسيح وكل واحد منابالروح القدس يذهب المسيح، الراعي الصالح، إلى أحلك الأماكن حتى يجد الإنسان الضال الخاطىء الميت روحياً ويحمله في داخله بعملية صوفية، يرأسها الروح القدس، يتوحد فيها كيانه مع كيان الإنسان الضال ويرجع المسيح حاملاً الإنسان في طياته إلى نور اللهلذلك، وإن كان المصلوب لا يتحرك ظاهراً، ففي الواقع إنه في حركةإنه فعلاً فصحنا أي أنه في حالة دائمة للعبور أو بمعنى آخر إنه "عبّارتنا".
إن الله على الصليب قد فعل كل مقدوره حتى يحبنا وجعل على الصليب من نفسه، من طبيعته البشرية، "عبّارتناالإلهيةلاْ يفرض الله ذاته علينا بل يفضل أن يحثنا على الحب الحقيقيتبادل الحب الحقيقي مع المسيح يعني أنه من طرفنا علينا أن نقدم ذاتنا كاملةً للمسيح، واضعين أنفسنا داخل "العبّارةالإلهيةللتو يحملنا المسيح من ظلمةٍ إلى قيامةٍحركة "العبّارة"، أي المسيح المصلوب، من الظلمة إلى النور،هي حركة دائمة تُملي على الزمن البشري نبضه الأساسي (الذي فُقدحتى تصبح وحدة الزمن الحقيقية. 1- الدخول في "العبّارةيعبر بنا من ظلمةٍ إلى نورٍ 2- الدخول في "العبّارةيحولنا في المسيح، أي يؤلهنا راسماً خطوتنا في الأرشيف الأبدي أي كتاب الحياةيتغير إذاً الزمن تحت أعيننا باختبارنا لحظة بعد لحظة لخطوات العبورفي كل يوم عندما نواجه ظلماتنا ونضعها باختيار حر (الذي هو دليل حبفي قلب المسيح المصلوب، نسمح لذاتنا أن ننال الخلاص جرعة بعد جرعة، خطوة بعد خطوة، عابرين من الموت إلى القيامة، مختبرين قوة انتصاره.
علينا إذاً ألا نفقد كل الفرص المتاحة لنا خلال النهار حتى نضع صعوباتنا ومشاكلنا وفوق كل شيء ذواتنا في كيان المصلوب حتى يرفعنا إلى قلبه ويغيرنا فيهالصليب، وبالأصح المصلوب، هو في الواقع قوة رافعة علينا استخدامها واختبارهافبفضل الصليب الشر، وأي شر، ليس له الكلمة الأخيرة، بل المصلوب الإله هو الذي يصنع من الشر خيراً أسمىيستطيع الله إذاً دائماً أن يستخرج من أي شر خيراً أعلى، ولكن هذا لا يتم بدونناكلنا مدعوون أن نضع الشر الذي ينغص علينا حياتنا بين يدي المصلوب، حتى نستطيع أن نختبر الخير الأعلى الذي هو من صنع الرب فقطالاختبار فقط هو الذي يجعلنا نتحقق من قوة الصليب، وأن نعرف بيقين أنه "المُحولالأكبر والأوحد الذي يحّول مرارة الظلمة إلى شهد القيامةإن القديسين كلهم قد إستقوا من قوة الصليب البالغة واختبروا كيف أن الشر يتغير إلى خير أعلى وأن عالمنا هذا، بقوة الصليب، ليس مكتوباً عليه أن يزول ولكن أن يتحول ويتغير بقوة الصليبعلينا إذاً أن نأخذ حصتنا من المسئولية في تغيير عالمنا وألا نهرب منه، فكل واحد منا ينال قسطاً من المصاعب والشرور، ولكن عليه أن يرى قوة الصليب المغيرة التي تصحبه، وأن الله يولينا كرامة عالية، جاعلاً إيانا شركاء في تغيير وخلاص هذا القسط نفسهعلينا إذاً أن نحذو حذو القديسين، ونستخدم قوة الصليب استخداماً يومياً حتى تدخل قوة القيامة في أحداث يومنا وتغيرهاهكذا يتغير عالمنا ومجتمعنا يوماً بعد يوم تغييراً حقيقياً وفعلياً من الداخل.
تخرج من الصليب، وبالأصح من جنب المسيح (مكان خلقنا من جديد)، قوة بالغة، وعلينا أن نطلبها ونختبرها في كل لحظة من نهارنا.

29- اذكر لنا أمثلة من قديسي البيئة المصرية، وحياتهم الروحية؟

قبل التكلم عن القديسين المصريين، علينا أن نفهم مكانة كنيسة مصر في الكنيسة جمعاءأولاً كنيسة مصر، وبالأصح كرسي الإسكندرية، هي من ضمن الكنائس الخمس الأم التي منها انبثقت كل كنائس العالمالكنائس الأم هيروما، الإسكندرية، القسطنطينية (أو روما الجديدة)، أنطاكية وأورشليمكنيسة الإسكندرية لها وقع تاريخي وكنسي كبير جداًتأثيرها أولاً و قبل كل شيء ناتج من عدد شهدائها الغفيرفنحن نعلم أن دم الشهداء المختلط بدم المسيح وبمحبته الإلهية أقوى وسيلة لنشر الإنجيل وزرع مؤمنين آخرينمن التأثيرات الأخرى لكنيسة الإسكندرية، على سبيل المثال وليس الحصر، هيمن الناحية العقائدية (أثناسيوس وكيرلس)، ومن الناحية اللاهوتية (مدرسة الإسكندرية للتعليم المسيحيأكليمندس، أوريجانوس..إلخومن الناحية الرهبانية (أنطونيوس، مكاريوس، باخوميوسومن الناحية الروحية (المعلمون الروحانيون من الرهبان أو من المعلمين اللاهوتين أو من البطاركة). من هذا المنطلق نحن في مصر أمام مسئولية كبيرة تاريخية وكنسيةمن درس تاريخ الكنيسة الجامعة كثيراً ما سيرجع إلى مصر للأسباب التي ذكرناها أعلاهعلينا أن نفهم المنطق الإلهي الذي يقول إن الله عندما يبدأ شيئاً فهو يريد أن يكملهلذلك علينا أن ندرس تاريخنا بنظرة إيمانية حتى نكتشف كنوزنا ومن ثم مسئوليتنا الكنسيةلا نستطيع أن ننسى أن الرهبنة بدأت في مصر، وأبو الرهبان مصري، ومدرسة الإسكندرية منارة استقى منها العالم كله بدءاً من الآباء اليونانيينليس سخاء تربة مصر وتقوى أهل مصر فقط لمصر ولكن للعالم.
علينا أن نعرف أن من أهم قديسي الكنيسة الجامعة هو القديس أنطونيوس الكبير أبو الرهبانإن حياته بأطوارها فصل جديد يفتح أعيننا لفهم انجيل المسيح بشكل أعمقإن تعاليم القديس أنطونيوس لها خاصية مميزة و فيها النعمة الخاصة للمؤسس الذي هو أب لعائلة كبيرة.
علينا أن نتنبه للعلاقة الوطيدة بين القديس أنطونيوس والحياة الجديدة التي يفتتحها من ناحية، و القديس أثناسيوس بطريرك الإسكندرية وأسقفها من ناحية أخرىإن من عرّف العالم بالقديس أنطونيوس وقدم هذه الحياة كمثل للجميع هو القديس أثناسيوس الرسوليفالقديس أثناسيوس رأى نعمة الله في أنطونيوس تعمل وتخلق نمط حياة جديدبسرده لحياة أنطونيوس كان أثناسيوس يثبّت هذه الدعوة في الكنيسة في مصر وفي العالملقد رأى أيضاً القديس أثناسيوس العلاقة الوطيدة بين نمط الحياة (وبالأخص الحياة الروحية العميقة التي هي جوهر الحياة الرهبانية)، وأورثوذكسية الاعترافلقد استدعى القديس أثناسيوس أنطونيوس الراهب من خلوته حتى يساعده بشهادته في حروبه العقائدية ضد آريوس و فيروسه المنتشرو جاء أنطونيوس مسرعاً، معترفاً بأن المسيح هو الله.
من المهم جداً للكنيسة أن تفهم معنى دعوة أنطونيوس المصريكان أنطونيوس مؤمناً عادياً ينتمي لرعيتهو في يوم من الأيام، في القداس، أتاه صوت الرب داعياً إياه للتعمق في معموديته13فترك أنطونيوس كل شيء حتى يبحث عن المسيح الله ويجده ويعيش معهلقد كرس كل طاقاته لهذا الهدف الأوحدهذا هو المعنى الأساسي لهذه الحياة الجديدة.فالسخاء والتقوى اللذان عُرف بها شهداء مصر كُرسوا، ببركة أثناسيوس، في هذا السعي الدؤوب الذي أصبح أنطونيوس رأساً له.
"يسوع المسيح هو الذي مسحه الآب بالروح القدس وأقامه "كاهناً ونبياً وملكاً". وشعب الله كله يشترك في وظائف المسيح الثلاث هذه، ويتحمل مسئوليات الرسالة والخدمة التي تنشأ عنها" (كتاب التعليم المسيحي رقم 783). في هذا الحدث الفريد في حياة الكنيسة، حدث دعوة المسيح لأنطونيوس حتى يتبعه عن قريب، تظهر عناصر الكنيسة ووظائفهاالكنيسة ملكة تدبر حياة المؤمنين، وتُّفصل كلمة الحق في شخص بطريركها وأسقفها أثناسيوسوالكنيسة كاهنة تتبلور في رعية أنطونيوس وكاهنهاوالكنيسة نبوية تتبلور في أنطونيوس أبي الرهبان والروحانيينتكون الكنيسة جسداً متكاملاً وناضجاً عندما تجتمع وتعمل فيها هذه العناصر الثلاث بدون فصل ولاامتزاجالتدبير الأسقفي، الرعاية الكهنوتية (في الرعيةوالقيام النبوي14 (للراهب أو الروحاني).
بمعنى آخر إن أنطونيوس يعد أكثر من "أب للرهبان". فالوظيفة النبوية في الكنيسة ليست مقتصرة على الراهب أو اللاهوتي15الدعوة للتعمق في المعمودية، التي هي دعوة الراهب، ليست مقتصرة على الراهبفكل مسيحي، ممكن في حقبة من حياته المسيحية، أن يشعر بدعوة للتعمق في حياته الروحيةفهذه الدعوة ليست رهبانية ولكن إطارها إطار نبويويبقى القديس أنطونيوس، الذي تبلور فيه العنصر النبوي للكنيسة، مثالاً ومرجعية أساسياً لهذه الدعوةلذلك علينا أن ندرس بحرص شديد حياته و أطوارها الروحية، لأن فيها تعاليم أساسية لكل من سمع الدعوة من المسيح للتعمق في حياته الروحية



30- كيف تؤثر الروحانيات المعاصرة في الكنيسة الكاثوليكية إيجابياً على وحدة الكنائس (أي الحركة المسكونية)؟

منذ بداية القرن الماضي، نشأ في قلوب المؤمنين المسيحيين أي المعمدين الإحساس الروحي الإيماني بضرورة وحدة أخوة المسيح في كنيسة واحدة ذات راعٍ واحد وروح واحدةهذه المجهودات، صدرت من مؤمنين ينتمون إلى كنائس وجماعات مسيحية مختلفةبالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، تبلورت هذه المجهودات في نص أساسي صدر في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وعنوانه "الحركة المسكونية". علينا بالتأكيد أن نقرأ هذا النص ونتمعن فيه حتى نفهم معاني وأبعاد هذه الدفعة الإلهية النابعة من الروح القدس التي تدعو كل مسيحي وبالأخص كل مسيحي كاثوليكي إلى أن يسعى جاهداً لتحقيق وحدة الكنائسالجدير بالذكر، ومن الهام جداً أن نعي أن السبب الأول والأساسي للدعوة إلى "المجمع المسكوني الفاتيكاني الثانيتحت رعاية البابا يوحنا الثالث والعشرين في 25 يناير 1961، كان واحداً هو تحقيق وحدة الكنائس والجماعات المسيحية تحت كنيسة واحدة كما أرادها المسيح وروح واحدةمن الممكن أيضاً قراءة كتاب "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيفقرات من 813 حتى 822 الذي يتكلم فيه عن كون الكنيسة "واحدةويشرح فيه: 1- سر وحدة الكنيسة (813- 816) 2- جراح الوحدة (817- 819) 3- نحو الوحدة (820 -822).
الرقم 821 في كتاب "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيةتشرح فيه الكنيسة شتى الوسائل التي علينا أن نتخذها ككاثوليك وكمسيحيين حتى نصل إلى نعمة تحقيق الوحدةمن قرأ وتعمق في هذه القضية الهامة و الأساسية وضّحت له الأبعاد الروحية للدعوة الإلهية إلى الوحدة.
إننا نتكلم عن دعوة فعلية يوجهها الروح القدس إلى قلب كل مسيحي يبدأ يتعمق في حياته المسيحيةنلاحظ إذاً الرباط الباطني الوثيق الذي يربط بين الحياة الروحية للمؤمن (أياً كان كاهناً، راهباً، أوعلمانياًوالدعوة الروحية للعمل نحو اتحاد الكنائسهذا يعني أنه إذا كانت حياة المؤمن (أياً كان وأياً كانت كنيسته أو جماعتهفعلاً صادقة وطاهرة فالروح القدس الذي يعمل فيه سينشيء في قلبه أنيناً وحمية، يتألم من ناحية لتمزق جسد المسيح، ويدفعه الروح القدس أي المحبة الإلهية من ناحية أخرى إلى العمل الدؤوب نحو الوحدة بشتى الوسائل المتاحة اليوم.
الجدير بالذكر، وعلى سبيل المثال، إن ثمة مجهودات كبيرة قد تمت بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، ولكن هنالك إنجازات فعلية قد تمت خاصةً منذ زيارة البابا شنودة الثالث للبابا بولس السادس سنة 1973 . منذ ذلك الحين قد اتفقت الكنيستان على عدة نصوص، منها نص أساسي إيماني حول شخص المسيح يلاشي قروناً من الشك والغموض والحزن والألمإنها فعلاً صفحة جديدة بل وعصر جديد مضيء، يعالج شيئاً فشيئاً ما قد تم للأسف في مجمع خلقدونية سنة 451 . على جمع المؤمنين أن يعلموا أن الكنيستين تجتمعان بشكلِ دوري على مستوى المسئولين واللاهوتيين لدراسة نقاط الخلاف والتوصل إلى ملاشاتهاعلى المؤمنين على أرض الواقع أن يصحبوا هذه المجهودات المضنية بالوعي والصلاة.
المسيحي له دور أساسي في التحرك نحو الوحدةإنه لا يكتفي بالتفرج على مجهودات الكنائس اللاهوتية، وعلى العمل اللاهوتي بل عليه أن يساهم بالكثير في إطاره وعلى مستواهإنه على حق تتكلم الكنيسة الكاثوليكية عن البعد الروحي للحركة المسكونية مسمية إياه ب "المسكونية الروحية"، داعية المؤمنين إلى "ا"لصلاة المشتركةإذ إن التجدد في الباطن والقداسة في السيرة، متحدين بالصلوات الجمهورية والفردية لأجل الوحدة بين المسيحيين، يجب أن يعدا بمثابة الروح لكل حركة مسكونية، وأن يسميا بحق "المسكونية الروحية"" ("التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية" 821 ).
من البديهي أن كلما ازداد الوعي الروحي للمسيحي، أياً كان انتماؤه الكنسي وأياً كانت عائلته الروحية (
انتماء لأخوية أو رهبانية ثالثة أو حركة كنسية...إلى آخرهازداد حسه الروحي المسكوني، وازدادت صلاته للوحدة، وأضفى على علاقته مع إخوته المسيحيين بروح الرغبة في الوحدةالانفتاح بالفكر وبالقلب للأخوة المسيحيين، هو نتيجة طبيعية لعمل الروح القدس في المسيحييشير الروح القدس،الذي هو روح الوحدة، إلى كل ماهو إيجابي وبنّاء عند الآخر ويدفعنا إلى المساهمة في إنمائه والإستفادة منه.
علينا أن نضيف بعداً محلياً مهماً للقضية المسكونية، وبالأخص ل "المسكونية الروحيةبين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذكسيةكلما تعمقنا في التراث الروحي الحي في كل من الكنيستين، تحققنا في الأعماق أن في الواقع تراثنا واحداً وأن التفاوت في التعبير عنه ليس إلا قشوربهذا الشكل نتحقق أن ليس وحدتنا متحققة في مشاهدتنا للمسيح الواحد في الصلاة والطلب ولكن، وحدتنا متحققة أيضاً في وحدة التراث الروحيهذا التحقق يدفعنا إلى وعي جديد متجدد بأن مياهنا الجوفية واحدة حتى وإذا كان ظاهرياً أن لكلٍ بئرهِ الخاصلذلك علينا أن نعيش ونحيا في الأعماق حيث المياة الواحدة التي تتدفق بغزارة. "من له أذنان فليسمع" (مت13، 9).
نستخلص مما سبق أننا مازلنا نستطيع فعل الكثير حتى نحقق رغبة الروح الذي يسكننا في وحدة الجسدأولاًلا يستطيع أي مسيحي كان أن يدعي أن روح المسيح تسكن فيه وأن لديه حياة روحية وهو في الواقع لا يشعر روحياً (وهذا من ثمار الروحبألم تمزق الجسد الواحدهذا الأنين يسكن دائماً في قلب صلاته وأحاسيسه وعلاقاته مع إخوته المسيحيين أياً كان تصرفهمثانياًعلى كل مسيحي أن يتعمق ليس في حياته الروحية فقط ولكن في معرفته لتراثه الروحي لكنيسته أولاً وللكنائس الأخرى ثانياًإن لدينا الكثير المشترك في هذا الصددبعد هذا التعمق يصبح من السهل على المؤمن أن يسكن في الأعماق ويعيش منذ الآن بُعد الوحدة المتحقق في هذه الأعماقفبشكل ما اختبار المياه الجوفية المتدفقة الواحدة الموحدة هو اختبار ليس لوحدة مستقبلية فقط ولكن لوحدة متحققة منذ الآننفهم من ذلك أن التوصل إلى الوحدة الفعلية يفرض على الكنائس أن تنمو روحياً في أفرادها وفي جمعهافمعادلة الوحدة ليست 1+1 = 1 ولكن 5+5 = 1. هذا يعني أن كل نما روحياً وأصبح 5. وهذا يعني أيضاً أن بدون حياة روحية وبدون نمو روحي فردياً وكنسياً العمل المسكوني ناقص ( 1+1= 2 وليس 1). الخطر الذي يواجهنا اليوم في النقاشات اللاهوتية هو الذي واجهنا في مجمع خلقيدونية في سنة 451 .
إذ أن من السهل على النقاش اللاهوتي أن يخدم نوايا وسياسات بشرية وعرقيةأما الحياة الروحية العالية تجرد الإنسان من هذه الشوائب البشرية المتدنية وتجعل النقاش اللاهوتي تحت خدمة الروح القدس وليس العكس.
أتمنى أخيراً أن هذا اللقاء وهذه الشروحات تكون قد أعطت دفعة لمن يقرأها أن يتعلم أكثر، ويبحث أكثر ومن الممكن أن يسأل في كنيستهوأتمنى من القارئين لهذا الكتاب أن يقتربوا، ويدخلوا في طريق التغيير، والنمو، والتطهر، حتى يصلوا إلى الاتحاد مع الله، وأن تكون لهم خصوبة، لا يعطيها إلا الله وحده.
أشكركم،

 رفيق خوري
www.amorvincit.com



10 إن هذا اللفظ ورد على لسان القديس بولس في رسالته إلى غلاطية 4: 19، ولكن المتمخض الأول والأوحد هو المخلص نفسه على الصليبفأي تمخض آخر هو في الواقع اشتراك في تمخض المسيح.
11 انظر يوحنا 18، 4 – 6 حيث يتجلى هذا السلطان
12 ملاحظةالانتصار التام يتم بصعود الرب بطبيعته البشرية وجلوسه عن يمين الآبلذلك يشدد القديس بولس على هذا الانتصار في السماء وعلى سلطان المسيح التام (أفسس1، 20 – 22).

13 لاهوتياً، التكريس الرهبني مع أنه نعمة خاصة ودعوة خاصة ونمط حياة ونذور لا يشكل سراً جديداً في الكنيسةالأسرار السبعة، وعلى رأسها المعمودية، باقية كما هيالتكريس الرهباني في حد ذاته لا يضيف شيئاً جديداً للمعمودية، ولكنه دعوة و نعمة للتعمق في المعمودية ذاتها إذ أن فيها كل شيء، والمعمد أساساً لا ينقصه شىء
14 "وقام إيليا كالنار و توقد كلامه كالمشعل" (سيراخ48، 1).
15 الجامعات و المعاهد و المدارس اللاهوتية تعد أيضاً من ضمن الوظيفة النبوية للكنيسة.

٢ مدخل الى الحياة الروحية -ب

11- ماذا عن الجزء الثاني من القداسأي مائدة جسد ودم المسيح؟

هذه المائدة أشمل وأعمق، أشمل لأني أتناول جسد المسيح ودمه ونفسه وروحه ولاهوته، وأعمق لأنها تؤثر أساسا علي أعماق الإنسان أي روح الإنسان.
لحظة المناولة هي لحظة وجيزة في الزمن، ولكنها دعوة لأن تكون ممتدة ولها تأثير دائم وشامل في حياتي.
إن ذلك يتم في "الصلاة القلبية"، أو "الصلاة الصامتة". هذه الصلاة مرتبطة مباشرة بلحظة المناولة، وهي بمثابة إمتداد لهذه اللحظة.
بعد القداس عندما أعود إلي البيت، أستعيد هذه اللحظات، وبذلك أفتح الباب للمسيح حتى يؤثرفيّ بروحه القدوس بشكل أطول و أقوى وأعمق.
هذه الصلاة موجودة في الكنيسة الشرقية وتسمى ب "صلاة يسوع"، ونجدها مثلاً في كتاب "سائح روسي على دروب الربالذي يعلمنا إياها، وهي مذكورة أيضا في كتب أخرى كثيرة.
وفي الكنيسة الغربية تسمى هذه الصلاة ب "الصلاة العقلية" ((oratio mentalis أو"الصلاة القلبية". تعلمها القديسة تريزا الأفيلية والقديس يوحنا للصليب (كتبهم مترجمة إلى العربيةوغيرهما كثيرون.
"صلاة يسوعهي فعل باطني يقدم فيه الإنسان ذاته للرب فيأتي ويأخذه ويغطسه في كيانه ساكباً فيه نار محبتهفي الواقع "صلاة يسوعهي تجعل الإنسان يسترجع في قلبه لحظات المناولة، سامحاً للمسيح أن يسكب روحه القدوس في أعماقه. "صلاة يسوعهي امتداد للمناولة الأخيرة تعطيها مساحة وزمن لتفعيلهاهل يعني ذلك أن المناولة لا تعطي مفعولها من نفسها؟ بلى ولكن بشكل وجيز لأن الرب يحترم حرية الإنسان فلا يسكب ذاته في الإنسان غصباًعلى الإنسان أن يستغل نعمة المناولة الاستغلال الصحيح بالاجتهاد بالبقاء في المسيح بعد المناولةلقد أوصانا مرات عدة أن نسكن فيه (يو15، 4) حتى نفعل نعمة المناولةلأن من السهل على الانسان ألا يثبت في المسيح لقد وضح المسيح لنا الرباط الوطيد الكامن بين المناولة و"صلاة يسوع" "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت (يسكنفي وأنا فيه" (يو6، 56). بالتناول، يسكن بداخلي وعليّ بممارسة "صلاة يسوعأن أجتهد ساهراً حتى لا أخرج منه و أتركه وحدهإن حدث وخرجت فالرجوع والسكني في الله، هذا أمر يعود لي أنا، وهذه نعمة معطاة لي، ويجب أن أستجيب لها.
المناولة أساساً لقاء حبيبين، وحتى تعطي المناولة فاعليتها عليّ أن أعطي ذاتي كاملة له حتى يعطي هو ذاته كاملةً ليوما هي المعمودية إلا إعطاء الذات كاملة للرب، بدون شروط وبلا رجعةفي ذلك، وتتجدد المعمودية عند المناولة وعندما نصلي "صلاة يسوع". بها أسمح للمسيح أن يسكب ذاته في كياني لكي يغيرني بقوة الروح القدس.
نلاحظ أن "صلاة الاصغاءتنير وتغير العقل وتشفى وتطهر الإرادة، وأما "الصلاة القلبية"، أو"صلاة يسوع"، فإنها تغذي اعماق وجذور الإنسان، أي روحه، وهذه الروح مثل شجرة تدب أعماقها في الله وتتغذى منه مباشرة، فيجب أن نستجيب لهذه الدعوة من الرب، ونغطس كياننا في كيان الله، بالسكنى فيه بفعل الروح القدس، الذي يعود مرة أخرى مثل تيار كهربائي يؤثر فينا.
إننا لا نشعر بتأثير الروح القدس المباشر في روحنا، ولكن كثيراً ما نشعر في النفس أو في الجسد بأمورٍ "روحيةغير مباشرة لذلك من المهم أن يكون هناك تمييز، وهذا يتم بالإرشاد الروحي، الذي يمكن أن يفرق بين "ما نشعر به"، وبين "ما يحدث فعلافي روحنافي الطقس البيزنطي بعد المناولة نقول: "لقد نظرنا النور الحقيقي"، كما في الطقس القبطي نقول: "ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطرعلي قلب بشر، ما أعددته يا الله لأطفال كنيستك المقدسة"كل هذا معناه أن ما نتناوله هو شيء عال وراق جداً، والذي يتناوله أعلى جزء فينا وهو الروحالنفس والجسد لا يستطيعا أن يشعرا بما يحدث في الروح لذلك نلجأ للإرشاد الروحي حتى نميز عمل النعمة فينا.

12- ما معنى فعل تقدمة الذات؟ وهل يكفي أن أقول هأنا أسلم ذاتي؟

مثل ما قلت إن الصلاة القلبية تتم في الجزء الأعلى من النفس، أي الروح، هناك شروط أو طرق تساعدني أن أسكن في المسيح الساكن فيّْ، وأهم خطوة أن أسكن في المسيح أي أدخل ملكوت السموات، لأن في جسد المسيح يسكن ملء اللاهوت كله، وهو الممتلىء من الروح القدس، كل هذا له شروط:
أولاأن نصبح مثل الأطفال الصغار، وهذا قرار إنسان بالغ، ونتذكر قول الرب: "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال الصغار لن تدخلوا ملكوت السموات"، وهذا أصعب قرارممكن أن يتخذه إنسان بالغ، أن يصل إلى درجة التسليم والبساطة والمطاوعة التي للطفل الصغير.
عندما أتقدم للمسيح، أكون حاملاً جبلاً فوق ظهري من المشاكل والآلام والآمال والصعوبات والخطايا وأحداث اليوم، بهذه الطريقة أكون مثل الإنسان البالغ، وكأني أنا المسئول عن كل ذلك، يجب أن أقدم كل هذه الأشياء بثقة مثل طفل صغير، ولا أجعل هذا الجبل عائقاً بيني وبين الرب، فقد قال لنا :"تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"،) مت 11، 28) أي أعطوني ثقلكم وحملكم، وخذوا حملي، وأنا حملي خفيف ونيري هين.
إذاً فهناك قرار إنسان بالغ، إن هذا فعل تواضع هام ولازم، هذا طبعا ليس معناه أني أترك واجباتي وأتواكل.
لايصح أن أدخل عند الله وأنا مرتدي حذاءفقد قال الرب لموسى: "اخلع نعليك،لأنك في أرض مقدسة"، يجب أن أخلع هذا الحذاء الذي هو الهموم والمشاكل... وهكذا مثل الطفل الصغير الذي لا يعرف المشاكل أو المسئوليات، لايعرف الحواجز أوالخوف أيضاًَ، بل يتصرف بعفوية وتواضع وبساطة.
وقد أوصى الرب بذلك حين قال:"دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (لو18، 16).
الخطوة الثانية هي أن أقدم ذاتي كاملة للرب، وذلك بشكل بسيط جداً، أتصوروكأني مالك نفسي وقلبي وكياني، وأسلمه بملء حريتي، الله خلق الإنسان حراً، حتى يختارهو الرجوع له بملء حريته، وهذا هو الحب، عليّ أن أستخدم حريتي وإرادتي وأسلم ذاتي للرب بدون شروط، الحب ليس له شروط، لو أريد أن الله يعطي ذاته لي بدون شروط، إذن يجب أن أسلم ذاتي له بدون شروط.
لقد قال القديس أوغسطينُس: "عند المناولة، نحن لا نتناول المسيح، بل هو الذي يتناولنا ويأكلنا".
بعد ذلك ممكن أن أردد صلاة يسوع: "يا يسوع ابن داوود، ارحمني أنا الخاطيءأو صلاة "السلام الملائكيللعذراء مريم.
لا ننسى دور العذراء في فعل تقدمة الذات من خلالها، بذلك أستطيع أن أنسجم وأنسكب في المسيح، لا أستخدم طريقي الشخصي لأنه صعب ووعر، وقد لا أصِل، وبه مخاطرة كبيرة، بل الطريق الأقصر يكون مع العذراء مريم، ليس الهدف الأساسي أن أصلي لها هي، ولكن أصلي لها أن تصلني بيسوع بطريقتها هي الممتلئة نعمة وإيماناً.
نحن إذا أردنا أن نذهب إلى القمر، لا نستخدم عجلة، ولكن صاروخاً، نعتبر أن طريقتنا الشخصية هي العجلة، وأما طريقة العذراء مريم هي بمثابة الصاروخ الذي يصل بنا أسرع إلى قلب الآب.
العذراء عندما قالت "نعمللملاك (انظرلو1، 38) أثناء البشارة، قالتها لها، ولأليصابات وزكريا، وأيضاً لكل إنسان.
كما يجب أن نتذكر قولها: "ليس لهم خمر" (يو2، 3)، ولم تقل ليس لدينا خمر.

13- هل للصلاة القلبية مدة محددة؟

كلا هذين النوعين من الصلاة، أي صلاة الإصغاء والصلاة القلبية يحتاج إلى وقت، حتى نتعمق فيهما و نستوعبهما داخل كياننا، مثل عملية الغذاء هي أيضا تحتاج إلى وقت للإعداد والتجهيز والأكل والهضم وهكذاولكي نوضح ذلك، أقول إني أستخدم إرادتي أثناء أداء الصلاة، وأعطي كياني كله، وهذا يتطلب وقتاًوكل من قام بتجربة هذه الصلاة يعرف أنها تحتاج هذا الوقت، ومن الممكن أكثر منه، حيث إن (ساعةلاتكفي.
بالنسبة للصلاة القلبية، لها طريقتان، أو نوعان للممارسة، أولاممكن ممارستها أثناء اليوم، ونحن نقوم بواجباتنا اليومية، مثلا في الشارع أو أثناء الشغل، أو أثناء الطعام، ما الذي يمنع من أن أسلم كياني أو أن أسكن في الله لمدة لحظات بسيطة؟ مثل ما قال المسيح :"صلوا ولاتملوا"، وأيضا القديس بولس أوصانا: "صلوا دائما"، ما معنى صلوا دائما؟ معناها أي اسكنوا في الله، وذلك يعود إلى حريتكم.
الله يعطيني كياني في كل لحظة، وأنا أعيده له بملء حريتي بأداء هذه الصلاة، وقد قالت القديسة تريزا الطفل يسوع: "أنا أريد مع كل دقة من قلبي أن أسلم ذاتي وكياني للرب".
كما نجد في كتاب "سائح روسي على دروب الربمَن يعلمنا صلاة يسوع، أنه يكرر اسم يسوع مع دقات قلبه، ومع أنفاسه، ويصبح بذلك مع يسوع ويصلي في كل وقت بحسب الوصية.

كما نجد في أول آية من نشيد الأناشيد تقول العروس: "ليقبلني بقبل فمهما معناها؟
أي أن تنفس الانسان يرجع لأصله، أي تبادل بالروح القدس بين الإنسان والله.
القديس يوحنا الصليب يقول: "عندما يصل الإنسان إلى درجة من درجات الاتحاد مع الله، ويشتعل بالروح القدس، إنه يعطي الله لله نفسه، كشيء يمتلكه، هو من الله ويرجع لله ، تنفس الإنسان هو رئة ونَفَس وروح، وتعطي روح الإنسان الله لله بالاشتعال بالروح القدس".

هذه الممارسة ممكنة في أي لحظة من لحظات النهار، ولكن لكي نصل إلى هذه الدرجة من الصلاة، يجب أولا أن نتناول وجبة دسمة من هذه الصلاة مرتين في اليوم، صباحاً ومساء، ولتكن من نصف ساعة إلى ساعة في المرة الواحدة، وهناك من يمارسها مدة أطول، خاصةً أثناء الرياضات الروحية، هذه الوجبات الدسمة تساعد الإنسان أن يدخل ويغطس في كيان الله بشكل عميق، أثناء هذا الوقت، أعيد فعل تقدمة الذات عدة مرات، لأني ممكن أن أخرج من هذه السكنى في الله، وخاصة المبتدئين في هذه الصلاة، ولكن أحاول أن أعود وأرجع أسكن مرة أخرى في الرب، وأجدد هذا الفعل حتى أبرز حريتي واختياري للرب أني أريد أن أسكن فيه.
من المهم احترام موعد أداء هذه الصلاة يوميا في الوقت نفسه صباحاَ ومساء، وننتبه ألا تكون هذه المواعيد قريبة من موعد النوم، أيضاًَََ وضع الجسم هام جداً، بمعنى ألا يكون الوضع مؤلماً للجسد حتى لا يتشتت الانتباه عن أداء الصلاة.

14- هل هناك صلوات معينة نرددها أثناء فعل تقدمة الذات؟

نعم، هناك صلوات كثيرة، وهناك صلوات هي عبارة عن تقدمة للذات، مثل صلاة القديسة تريزا الطفل يسوع التي تقدم ذاتها ذبيحة حب للروح القدس، نهاية هذه الصلاة من الممكن تردادهاأيضا ترداد أجزاء من المزاميرحتى نُعبرعن الشغف والرغبة للسكنى في المسيح.
هناك ملاحظة هامة جداً، أن الصلاة التي نرددها يكون بها اسم يسوع واسم مريم، إن إسم يسوع هو نار آكلة، وهذا الإسم عبارة عن (ياه شوع)، أي الله يخلص، إذن عندما أقول يا يسوع، هو يدخلني و يقذفني داخل كيانه، تكرار اسم يسوع هام جداً، ونلاحظ في "صلاة يسوع" في كتاب سائح روسي، أنه يكرر اسم يسوع الذي هو قوة فعالة، والروح القدس يعمل عنما نلفظ اسم يسوع.
أيضا صلاة الوردية هامة جداً، لأنه في السلام الملائكي نحن نردد اسم مريم و اسم يسوع هو جوهر المسبحة، ونجد العذراء دائما تشير إلى يسوع وتوجهنا ناحيته، كما أننا نلفظ اسم مريم فهي الطريق الذي يصلنا إلى يسوع، إذن تتلى الوردية بهدوء، وبدون تأمل في الأسرار، ولكن التأمل في اسم يسوع، حتى ندخل ونسكن فيه، فأكرر جملة تعبر عن شغفي أن أدخل وأسكن في المسيح.

15- ما العقبات التي تواجه المبتدئين في الحياة الروحية؟ وكيف نتغلب عليها؟

من المؤكد أن المبتدىء في الحياة الروحية، الذي بدأ يمارس صلاة الإصغاء والصلاة القلبية، وهما مائدتا القداس، سيدخل في حالة من التغيير، ونحن نعلم أن هذا الطريق ليس به ثبات، أي إما أن يحدث تقدم أو رجوع للخلف، أي لا يكتفي المبتدىء أن يعتبر أنه وصل، وأن ليس عليه التقدم في درجات الإيمان المختلفة، أو أن يكتفي بكونه مسيحياً معمداً، وأن الأمر سيتوقف عند ذلك حتى الموت، هذا خطأ كبير ومرفوض، كما قال المسيح: "أنا هوالطريق"، الطريق به خطوات تحول من الإنسان العتيق بداخلنا إلي الإنسان الجديد الذي هو على صورة الله، في طريق التحول هذا سيبدأ هذا الإنسان الجديد يأخذ مجالاً كبيراً والآخر العتيق يصبح له حيز صغيرإلى أن يختفي تدريجياً.
هذا التحول هو تطهير وتقديس للإنسان، وهذا يتأتى من ممارسة الأفعال التي تتماشى مع إرادة الله والتي لم نكن قد قمنا بها قبل ذلك، أشياء جديدة بحسب إرادة الله، كل ذلك يؤدي إلى تغيير، وهذا التغييرسيغير نظرتنا للأمور، ولنأخذ مثل الكوب الممتلىء حتى نصفه، ممكن نراه من النصف الفارغ أوالآخرالممتلىء، هكذا بالنسبة للأمور الروحية، ممكن أراها مثل مغامرة رائعة، وبها سأرى نور حب الله وناره، وهنا تكون النظرة إيجابية ومثمرة، لأني سأتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ومن الممكن أن أراها بحسب الإنسان العتيق، أي هذا الطريق به كثير من العوائق، كما أني يمكن أن أغيرعاداتي، وأكتسب عادات جديدة، قد أرفضها أولاً.

هناك مثلاً قديسون تحدثوا كثيراً عن النور والفرح، وقديسون آخرون تحدثوا عن العقبات والمحن والألم والشدائد وغيرها، بالطبع هذا لا يعني أن من يتحدث عن الفرح والنور، لايعاني المحن والألم، والعكس صحيح.
نحن نرى مثلاًًً أن اللاهوت الشرقي يميل أكثرلأن يصف الروح القدس بالنور، أما اللاهوت الغربي فهو يميل أكثر لوصف الروح القدس بالألم والصليبهذا لا يعني أن هذا على حق والآخرمخطىء، ولكن يعني أن هناك تركيزاً على شيء أكثر من الآخر.
إذن العقبات مرتبطة مباشرةًً بحالة النمو، ومن الممكن في هذه الحالة أن أتخذ هذه العقبات لتكون ينبوع التغيير والتجدد، وليست شيئاً غامضاً وثقلاً حتمياً علينابالتأكيد هناك أحداث وأشخاص في حياتنا لن نستطيع تغييرهم، ولكن ممكن أن التغيير يحدث عندي أنا، وبذلك يمكنني أن أصنع سعادتي بنفسي من خلال الأحداث، و هذا إختيارمثلاً القديسة تريزا الطفل يسوع كانت تقول: "أنا أجد سعادتي في الوضع الحالي الذي أعيشه"، و ذلك اختيار وليس حالة، فهي لم تترك المحن تؤثر عليها سلبياًَ.

16- هل هناك إشارات ملموسة تجعلنا نعرف أننا نسيرفي الطريق الصحيح، وكيف نعرف أننا نتقدم؟

هذا سؤال هام جداً، لأن هذه المعرفة (أي معرفة أين نحن في الطريقهي سلاح ذو حدين، أي إنها يمكن أن تساعد الإنسان على النمو والتقدم، ويمكن أن تصيبه بالكبرياء الروحي.
لتنناول أولاً فكرة وجود طريق في الحياة الروحيةإنه شيء موجود في الكتاب المقدسالرسل عندما تعرفوا على المسيح في البداية، ليسوا هم أنفسهم بعد مرور ثلاث سنوات معه، بالتأكيد حدث لهم تغيير، خاصة بعد آلام وصلب وموت وقيامة المسيحونرى مثلاً في إنجيل القديس متى عندما سأل المسيح تلاميذه: "من تقول الناس أني أنا هو، فقالوا بعضهم إنك يوحنا المعمدان وغيرهم إنك النبي إيليا وآخرون إنك أرميا أو واحد من الأنبياء"، فسألهم: "وانتم من تقولون إني أنا؟، فأجاب سمعان بطرس قائلاًأنت هو المسيح إبن الله الحي!"، فقال له يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يوناما أعلن لك هذا لحمٌ ودمٌ، بل أبي الذي في السموات" (متى16، 13- 17). وهذا يوضح لنا أن هذا الكشف لم يكن بمجهود شخصي من بطرس، أي أنه لم يكن له حياة روحية بعد، لأنه عندما أعلن لهم أنه سوف يتألم ويصلب ويموت، قال له بطرس: "حاشا لك يا رب"، وهنا نرى بطرس كان عليه أن يسير في طريق تغيير، لأنه كان يعرف المسيح بقدرته البشرية، فمن المهم أن نسير مع المسيح بأسلوبه هو، أي باسلوب إلهي.
بذلك نرى أن التلاميذ أنفسهم ساروا في خطوات وأطوار، وذلك دليل واضح أن الشيء نفسه يطبق علينا، وذلك نجده بوضوح وقوة في كتب الآباء الروحيين والقديسين ومعلمي الكنيسة، إذا كان الله يتكلم عن نمو وخطوات، فذلك لفائدة الإنسان.
مثلاً، لوتصورنا أن الطب لا يعلم شيئاً عن الحمل، وأطواره ومراحله المختلفة، إلى أن يصبح الجنين طفلاً، الطب هو الذي يقول لنا هل هذا الطفل ينمو أم لا، وهو يقارن هنا بالمتوسطات المعروفة، الأمر نفسه في الحياة الروحية، من الممكن أن أعيش حياتي الروحية بإستهتار ولامبالاه، ولا أعرف أين أنا في هذا الطريق، والمعرفة هنا ليست للمباهاة، ولكن لكي أعرف ما الذي على فعله حتى أتقدم؟ هدف المعرفة هو حب الله والنمو في هذا الحبالإرشاد مهم، لأنه يعرّف الإنسان هل هو ينمو أم لا؟.
يساعدني الإرشاد الروحي حتى أعرف ماذا عليّ أن أفعل، حتي أتقدم في المعرفة والقدرة على الحب، وهنا يمكنني أن أقبل على أشياء لم أكن أستطيع أن أقوم بها في السابق، من المهم أن أعرف لأني يمكن أكون أفضل.
الثقافة الروحية ضرورية، وتأتي من كتب القديسين ومعلمي الكنيسة، والإرشاد الروحي، ونحن مثقفون في أشياء كثيرة، وليس لدينا ثقافة روحية.
من المهم أيضاً معرفة خطوات نموالإنسان الروحية، حتي يمكنني أن أعرف أين أنا، ولكن ننتبه أن هذه المعرفة قد تنقلب إلى نوع من الكبرياء الروحي، وذلك خطر، ولذلك نوهت أن هذه المعرفة هي سلاح ذو حدين.
الإنسان الذي يجب أن يهتم بالإرشاد الروحي هو المرشد وليس المسترشد، لأنه عندما يعرف أين أنا من الطريق الروحييعطيني خبرته كمرشد، يقول لي ماذا أفعلهل أقرأ كتاباً معيناً، أم أقوم بأفعال معينة؟ وهكذا من أمور لتساعدني على النمو، لأنه كما قالت القديسة تريزا الأفيلية إن هذا الطريق ليس به ثبات، إما أن نرتفع لأعلى، و إما لأسفل.

17- نريد أن نعرف ما الفرق بين الإعتراف والإرشاد الروحي؟

الفرق شاسع، وللأسف ممكن أحياناً أن نخلط بين الإثنين، وننسى قضية الإرشاد الروحي.
في سرالإعتراف، نحن نذهب للمسيح ونسرد له الخطايا التي قمنا بها، والمسيح يعطينا بواسطة الكاهن غفران خطايانا ويعطينا الكاهن فرض أو قانون يسمح بتفعيل نعمة مغفرة المسيح في حياتناولكن الإرشاد الروحي، أنا أتكلم عن حياتي الروحية، وكيف أنظمها، وهل أنا أمين عليها أم لا؟
في سرالإعتراف، الكاهن لايقوم بالإرشاد، لأن ذلك يتطلب وقتاً، أما في الإرشاد، فيسأل المرشد عن أشياء ليراجع حياة المسترشد، وكأنه يُمشط حكمة الإنسان، أي هل تصرفه صحيح أم لا؟.
من هو المحتاج للإرشاد الروحي؟ إنه الشخص الذي بدأ فعلا في الطريق الروحي، الذي قرر أن يضع يده في يد المسيح، وبدأ يمارس صلاة الإصغاء، والصلاة القلبية، وبدأ يتغذى، وهو هنا يحتاج لمراجعة هذا الغذاء، والتأكد إذا كان يساعده على النمو أم لاالحياة الروحية بحرواسع جداً، ولايمكننا أن نسير فيه بمفردنا، بينما في الإعتراف، نحن نراجع وصايا الرب (الوصايا العشروهل نقوم بها أم لا؟ أي نحن نعرف الوصايا، ونعترف أننا لم نفعلها، أو نعرف ما هي الخطايا التي فعلناها بالإهمال، ونعترف على ذلك.
هناك أيضا فرق بين الإرشاد الروحي، والثقافة الروحية، والتعليم الروحي.
التعليم الروحييدرس في "كورساتتسمى (التربية الدينية للبالغين)، أي تكوين روحي للبالغين، لا نكتفي بالقليل، لكن علينا أن نتعلم حتي نعرف كيف نتحرك، أما الإرشاد لا يعطي علماً، وإنما يوجه فقط، ولكن التعليم الروحي يُعطى للجميع.
أما الثقافة الروحية، هي مطالعة كتب معلمي الكنيسة، الغربيين مثلاًالقديسة تريزا الأفيلية، والقديس يوحنا الصليب، والقديسة تريزا الطفل يسوع، ومن معلمي الكنيسة الشرقيين، هناك الكثيرون أيضاً، بدون الثقافة الروحية لايمكن أن نتحرك ونتصرف بإسلوب جديدأنا لا أقصد أن يتحول المجتمع إلي مجتمع ديني، ولكن على الأقل يكون هناك ثقافة روحية، أي ألا نكتفي بالقليل، كما أن عدم الثقافة معناها أن الشخص لم يبدأ الطريق بعد.

18- هل تذكر لنا بعض الكتب الهامة للقراءة؟

الكتاب الأساسي هو الكتاب المقدس، وهو بحر واسع، وعلينا أن نعرف كيف نغوص في هذا البحرالذي يتكلم في هذا الكتاب هو الروح القدسلذلك مكانة الكتاب المقدس بين الكتب الأخرى حتى الأسمى منها و الأكثر روحانية تختلف تماماً، إذ علينا أن نعطيه ليس المقام الأول فقط ولكن أن نفهم أن ليس بعده كتاب ثانٍإذ أننا لانستطيع أن نبدله ولا أن نساويه مع أي كتاب آخرأي كتاب آخر روحي مفيد دوره هو أن يعلمنا كيف نقرأ الكتاب المقدس وكيف نبحر فيههناك آباء للكنيسة في الحقبة الزمنية من القرن الثاني إلى القرن السابع الميلادي، قد وضعوا لنا تفاسير الكتاب المقدس في غاية الأهمية، من هؤلاء الآباءالقديس أثناسيوس، القديس كيرلس السكندري؛ القديس كيرلس الأورشليمي القديس غريغوريوس النيزينزي، القديس يوحنا ذهبي الفم، القديس يوحنا الدمشقي ، القديس أوغسطينس، القديس أمبروسيوس، العلامة أوريجانس وهومصري، وغيرهم كثيرون، هؤلاء الآباء لهم فائدة أساسية، لأنهم علمونا كيف نقرأ الكتاب المقدس بالروحيمكن أن نقرأه بالحرف فقط، ولكن علينا أن نقرأه بالحرف والروح.
لنأخذ مثلا نص السامري الصالح، ونرى كيف فسروه، هم احترموا النص، ولكن عندهم شفافية، أي إنهم يرون أشياء نحن لا نراها.
الجريح الذي كان ملقى على الطريق هو آدم، وحالته هي نصف مائت، كان نازلا من أورشليم السماوية ثم ُضرِب بمعنى أنه أخطأاللاوي هو موسى ولم يستطع أن ينقذه، والكاهن، يمثل الأنبياء الذين أتوا بعد موسى، ولم يستطيعوا أيضاً أن يخلصوه أو يشفوه، ثم جاء السامري الصالح، أي المسيح، وكيف نسمي المسيح سامرياً؟ نتذكر أن قصة السامري جاءت من سؤال سأله شخص ليسوع المسيح، عندما قال لهماهي وصايا الرب؟ فأجابه يسوعأن تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، وأن تحب قريبك كنفسك، فسألهومن هو قريبي، فبدأ يسوع يشرح مثل السامري الصالح، والمسيح علمه كيف يكون قريباً للآخر، هنا السامري هو المسيح بحسب الآباء، وهو لم يعتبر نفسه من الشكل المألوف للأنبياء أوالملوك، ولكنه كان مختلفاً، لأنه هو الذي اقترب من الإنسان حتى يداويه ويشفيه.
القديس أوغسطينس مثلاً قال عن الدينارين في مثل السامري، هما الوصيتان الأساسيتان في الإنجيل كله، وهما "محبة الرب ومحبة القريب"، وهما يلخصان الإنجيل كله، والفندق الذي أخذه فيه ليشفى هو الكنيسة.وهكذا.
إذن آباء الكنيسة يعلموننا كيف نفك رموز الكتاب المقدس، ويدلوننا علي كيفية تفسيرها، إنه علم منفصل، ولكنه شيق جداً، أن نتعلم ليس مضمون الرموز فقط لأنها يمكن أن تختلف من مفسر لآخر، وكلٍ منهما جائز وصحيح، ولكن هناك أيضاً تفاسير أقوى من فك الموز، ضرورية عندما أبدأ الحياة الروحية أن أتتلمذ على أيدي هؤلاء الآباء حتى أعرف كيف أتغذى من الكتاب المقدس.
نحن نتعلم معهم الدخول في حقبة الرموز وفكها، أي أن النفس تنفتح وتستطيع أن تستقبل المسيح، وتعبر من شاطىء البحر إلى الآخر، أي من المعرفة العادية إلى المعرفة الأعمق، وتصبح الثقافة الروحية التي نأخذها من الآباء ضرورية وهامة جداً حتى نعرف ونتعلم كيف نتحرك.
هنالك بالطبع كتب كثيرة تعلمنا الحياة الروحيةمن البديهي أن أول قراءة نباشرها حتى نؤسس حياتنا المسيحية هو قراءة كتاب "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية".وإذا أردنا أن نتعمق في الحياة الروحية، ونبحر فيها، فعلينا أن نذهب إلى المعلمين الروحانيين؛ لمعرفة الكتب والمؤلفين الروحانيين انظر سؤال 25.

19- هل واجب إحضار كتب تفاسير الكتاب المقدس؟

نعم، كنت أتكلم عن الثقافة الروحية، وذلك عمل شخصي، بغض النظر عن حضور التكوين الروحي للبالغين، ونحن هنا في مصرعندنا المكتبة القبطية الأورثوذكسية مليئة وعامرة بالكتب وتفاسيرالآباء، وقد قامت بترجمة سلاسل من هذه الكتب، وبأسعارمعقولة جداً.
هناك تفسير القديس أوغسطينس لإنجيل يوحنا، وأجزاء من العهد القديم، وتفسير القديس أمبروسيوس لإنجيل لوقا، وتفاسيرلأوريجانس، وعظات للقديس كيرلس الأورشليمي لشرح أجزاء من العهد القديم، وهي هامة، فنحن نعلم أن العهد القديم هو عبارة عن العهد الجديد، ولكن بشكل مستتر، وكيف نعرف ذلك إلا من خلال كتب التفاسير، وبالقراءة والاطلاعونتذكر حديث المسيح مع تلاميذ عماوس، وهم حزانى، أن المسيح انتهى بهذا الشكلفبدأ يسوع يشرح لهم من العهد القديم هذه الأحداث، نتذكر أيضاً وقت البصخة المقدسة أثناء أسبوع الآلام، نقرأ نبوءات العهد القديم، وهذه هي الليتورجيا، ونذوق مع الآباء هذه النصوص التي وضعوها، فنقرأ العهد القديم الذي يتكلم عن المسيح، لذلك القراءة والمطالعة أساسيةً.

20- متى يمكن لدارس هذا التعليم أن ينقله ويسلمه للآخرين؟

إن نقل هذا التعليم يصنف في التعليم الروحي على أنه فعل محبة، أوفعل رحمة، عندما يبدأ المسيحي حياته الروحية، ويضع يده في يد المسيح، المسيح لا يجذبه هو فقط نحوه، ولكن يجذبه أيضاً نحو جسده الذي هو القريب، فأنا لاأستطيع أن أحب المسيح الرأس وأنسى المسيح الجسد، لذلك قال السيد المسيح:"كل مافعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي صنعتموه". هو لم يقل كأنكم فعلتموه لي، بل قال قد فعلتموه لي، وهوهنا يحاول يفهمنا أن هناك المسيح الرأس أي ربنا يسوع المسيح، وأيضاً جسده الذي هو كل إنسان مدعو لمعرفة المسيح، عند بداية الحياة الروحية يفهمنا المسيح ضرورة الانفتاح على الآخر في سبيل المسيح، وبحثاً عن المسيح في هذا الآخر.
إذن، من بداية الحياة الروحية، حيث تبدأ المحبة الإلهية بتفتح عين قلب الإنسان حتى يرى المسيح في أخيهالمسيح يقول: "صلوا لأعدائكم، وباركوا لاعنيكم"، لأن عدوك اليوم هو مسيحي غداً، والذي سيفتح له الطريق هو أنت، يا من بدأت تعرف المسيح، وتضع يدك في يده، لأنك أنت وسيط، وقناة توصل النعمة، وتفتح الطريق لأخيك، ولو كنت أنت لا تفهم ذلك، فأنت تغلق الطريق أمامك وأمام أخيك أيضاًوكما قال القديس بولس: "من منا لايهتم بجسده ويحبهوهنا قريبك هو جسدك، ولو نظرنا لهذا الآخر بنظرة روحية، سنجد القريب هو أولاً جسدنا، لذلك أيضاً قال السيد المسيح: "أن تحب قريبك كنفسك"، ونحن ننظر إلى جسدنا كجزء غريب عنا، وهنا خطأ كبير، لأن الروح القدس الذي يربطني بالله، هو أيضاً نفس الروح الذي يربطني مع القريب، فلا أستطيع أن أقول إني أحب الله، وأنا لا أحب القريبإذن، من بداية الطريق الروحي، يجب أن تتفجر قوة الروح القدس داخل قلب الإنسان، وتبدأ المحبة الحقيقية للآخر، ولا أخاف من ذلك، لأني سأبدأ أكتشف حب الله لي، وعندها سأنفتح على محبة القريب، لأني من ذاتي لن أستطيع بقوتي الشخصية أن أحب قريبي إن لم أحب نفسي أولاً، أو إن لم أستقبل حب الله لي.
هذه مجرد خطوة، وتأتي خطوات أعمق، لأني كيف يمكنني أن أحب إنساناً قد سبب لي أذى؟ هذا صعب، بل يشكل لي جبلاً، هو جبل الأنا، ويحتاج إلى أن أسيرخطوات، وهنا سأكتشف عالماً جديداً، حيث سيزداد حب الله داخلي، ويشمل ليس القريب فقط ، بل الأعداء أيضاً، بل يشمل أشخاصاً لم نفكر أن نحبهم، لأنهم كانوا بالنسبة لنا من المنبوذين، لأننا نعتبرهم خطأة، ولكن مع التقدم في الحياة الروحية، وحياة الصلاة، تبدأ تظهر حالة من الضيافة الروحية، التي تملأ قلب الإنسان، وتستطيع أن تضم وتشمل العالم كله.
هذا النمو في المحبة، بالطبع له نتائج، أولاً تبدأ أعمال المحبة، وتشمل الأفعال الملموسة أو المادية، منها الاهتمام بالمرضى والفقراء والمحتاجين، وهذا يساعدني أن أخرج من ذاتي الأنانية والخائفة، وأستطيع أن أرى أن هناك فقيراً ومحتاجاً، وهنا المسيح يزيل الغمامة من أعين النفس، والتي تمنعني من أن أرى الآخر المحتاج لي، وأعيش في حالة من الانسجام الروحي مع الآخر، حتى ولو لم أره، لأن المسيح هو الذي منح قلبي هذا الاتساع وساعدني على محبة الآخر، وخطوة بعد أخرى تبدأ هذه المحبة تتسع وتشمل أبعاداً جديدة ورفيعة، وراقية، ونصل بعد ذلك إلى مرحلة تعليم الآخرين، وكما قلت إن هذا فعل من أفعال الرحمة، فلا يصح أن أترك أخي جاهلاً، لا يعلم بكل هذه الأمور، فكما أعطيه أن يأكل مادياً، يجب أن أعطي قلبه وكيانه غذاء آخر، وهذا يتطلب إعداداً، أي ليس إرتجالياً، والإعداد هو من القراءة والمطالعة والدراسة، وحضور الدراسات التكوينية، ويمكن أيضاً إجراء امتحانات لهؤلاء الدارسين، ثم يبدأ الإنسان يعطي مما أخذه، ولكن كخطوة سابقة لذلك، يمكن تعلم أشياء بسيطة، ونقلها، أي ليس بالضرورة أن أصبح عالماً حتى أعطي، ولكن في الموعد المناسب، وبالشكل المناسب وليس عشوائياً، أي أعطي أوأمتنع عندما يريد الرب ذلك، إذ ليس ما هومفيد يعطى في أي وقت.

21- ما معنى إنكار الذات الذي قصده السيد المسيح؟

إن الإنسان عندما يبدأ ينمو روحياً، يكون مثل المرأة الحامل بتوأم أحدهما هو الإنسان العتيق، والآخر هو الإنسان الجديد، والاثنان دائماً في حالة حرب، وهذه الحرب طبيعيةأحدهما بذرة نوريجب أن تنمو وتصبح شجرة كبيرة، والآخر يمثل الزوؤان الذي ينبت بين الزرع ليفسده، وهو يتلف ويضعف ويموت من نفسهعلينا إذاً أن نميز بين نوعين من "حب الذاتواحد إيجابي مطلوب ومُحبذ، والآخر سلبي يُبغض ويُنبذحب ذات إيجابي ممكن أن يدعو للاستغرابفي الواقع حب الذات هو ضرورة حيوية؛ دعني أشرح ذلك:
عندما تكلم السيد المسيح عن محبة الله ومحبة القريب، قال: "أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، وأحبب قريبك كنفسك". كيف نفهم "كنفسك"؟ يطلب مني الرب أن أحب نفسي بحسب الله وبحب اللهعندما تكلم القديس بولس عن حب الرجل لامرأته قال أن عليه أن يحبها كجسده، وأضاف قائلاً إنه من البديهي أننا نعتني بجسدنا ونهتم به ونغذيه (أف5، 28-29). هذه إشارة واضحة على إن الإنسان، وبشكل طبيعي يهتم بجسده وبذاتهأحياناً كثيرة نحن لا نهتم بأجسادنا كما يجب، وذلك يحدث بطرق شتىالتدخين مثلاً، والإفراط في تناول الطعامهذا إهمال للصحة الجسدية، وخطأ كبيرإذن بداخل تعليم ووصايا الرب وصية حب الذات، ولكن بحسب النور، وليس بحسب الظلمة، أي أن لا أقهر جسدي أو أميته بشكل مفرط وبغير تمييز، لأني بذلك سأفقد عزيمتي وحريتي اللتين ستساعداني في القيام بوصايا الربإني لو أنهكت قواي تماماً بهذه الأفعال، أين الكيان الذي سيحبه الله؟ هناك من يظنون أن هذا هو المطلوب منهم، ولكن هذا خطأ في التمييز، لأني بذلك أكون قد أضعفت حريتي وقدرتي على الاختيار، وهذا هو أكسجين الله.
الله مثل زرعة تنمو بداخلي، يتنفس من العطاء الذي أعطيه له، فلا أستطيع أن أقتل ذاتي، فمن الذي سيحب ويشتغل إذن؟ إنكار الذات الإيجابي هو إنكار للإنسان القديم، إنكار للأنانية، أي إنكار وضع ذاتي في المقام الأول بشكل سلبي، وليس وضع الله في المقام الأول، وحبه لي أيضاًيجب أن أنسى مصلحتي، وألا أكون أنانياً.
إنكار الذات هو عندما أجد نفسي في لحظة ما أمام خيارين، أحدهما يمثل مصلحتي الشخصية بأنانية، والآخر خدمة الله والقريب، ماذا سأختار؟ هل سأتجه لمساعدة هذا المحتاج لي، أم سأفضل بأنانية راحتي؟ هل سأرى المسيح في شخص هذا المحتاج الذي يقرع بابي أم لا؟ إذا اتجهت إلى هذا المحتاج، فهذا هو إنكار الذات، وهنا أنكر ذاتي لكي أغذيها بالنورالإلهي، وأغذي عيني برؤية المسيح، وأيضاً قلبي بالروح القدس المعطى لي، فأعطيه لأخي هذا المحتاج، وهذا يحدث نمو لذاتي بفعل إنكار الذات هذاففي الواقع إني أنكر الإنسان القديم وأغذي الإنسان الجديد الذي هو على صورة الله ومثاله.

22- ما هدف الحياة الروحية؟

للحياة الروحية هدفان، أولهما هو الاتحاد بالمسيح، وهذا لا يتم في لحظة، ولكن بالتدريج، إلى أن نصل لحالة من الثباتوقد وصف قديسو الشرق هذه الحالة باقتناء الروح القدسإذاً الهدف هو أن نصل إلى هذه المرحلة، والتي منها نصل إلى تحقيق الهدف الأخير، وهو ملء أو اكتمال المحبة فينا، وذلك يتوافق مع لحظة الموتوهنا نذكر أن موت المسيحي الذي وصل إلى ملء حياته الروحية يختلف عن موت أي إنسان آخر غير مكتملة بنيته الروحية.
الإنسان المكتمل في سيرته، يشبه شجرة وصلت إلى ملء نموها واكتمالها، فطرحت ثمارها عدة مرات، وبعد ذلك أنهت رسالتهاأما الإنسان الذي يصل إلى الموت ولم يتمم مسيرته الروحية، يشبه الشجرة التي لم يكتمل نموها، وهذا، للأسف الشديد، هو حال أغلب الناسلذلك نشير إلى ضرورة التكوين الروحي للبالغين، حتى يصل أكبر عدد إلى الاكتمال أي إلى قامة ملء المسيح.
إذن، المرحلة الأولى في الحياة الروحية هدفها الاتحاد بالمسيح، والمرحلة الثانية هدفها ملء المحبة، أي أن يكون الإنسان قد اكتمل في المحبة، مما يسبب انفصال الروح والنفس عن الجسد، محدثاً الموتفيكون سبب الموت ليس أي سبب طبيعي (كالمرض أو الشيخوخةولكن نتيجة لفعل حب من أفعال الروح القدس أقوى من السابقين، يُستأصل فيه النفس والروح من الجسد4.
هذا الاتحاد مع المسيح هو الذي نوه عنه القديس بولس عندما قال: "لست أنا أحيا، بل المسيح يحيا في" (غل2، 20). بينما ملء المحبة تحدث عندما يقدم الإنسان حياته للرب ذبيحة (أنظر 2تيمو4، 6)، وكما قال القديس بولس أيضاً: "أتمم في جسدي ما ينقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة(كو1، 24). بالطبع أن آلام المسيح تامة، ولكن هو يشير إلى دوره في تطبيق ثمار آلام المسيح على أعضاء جسد المسيح.
دعنا نرجع إلى الهدف الأول لحياتنا على الأرض وهو "الإتحاد بالمسيحأو "القران الروحيمعهينتابنا السؤال الُمِلحأين "الاتحاد بالمسيحفي الكتاب المقدس؟ لو عمقنا نظرتنا للصليب لوجدنا ثلاثة مستويات: 1- الجسد المتألم، 2- النفس المتألمة بسبب خطايانا ("نفسي حزينة حتى الموت" (مت26، 38)) 3- الروح في نشوة وفرح إذ إنه يتمم خلاص البشرإذاً، إذا تخطينا بنظرة إيمانية ثاقبة الجسد المتألم والنفس المتألمة، سنصل إلى روح المسيح وسنجدها متحدة مع لاهوته كلها نور ومحبة وفرحوالقديسون رأوا أن المسيح في هذا الوقت يضم الإنسان إلى الله، أي كأنه يمسك الإنسان بيدٍ من ناحية، والله بيدٍ من ناحية أخرى، ويضمهما ويجمعهما محققاً رجوع الإنسان إلى الله واتحاده بهنستخلص إذا كان المسيح ظاهرياً، فهو جسدياً مثبتاً على الصليب، فإنه في الواقع باطنياً يتحرك كل الحركة، محققاً الخلاص أي عابراً بالإنسان من الظلمة البعيدة، إلى النور الإلهي، أي إلى حضن الآب.
ولو كل واحد منا تعمق في مشهد الصليب بإيمان، سيجد نفسه بين يدي المسيح وهو يضمه مع الله، أي سيشاهد، بنعمة الرب، لحظة اتحاده مع المسيح اللهلذلك يتغنى القديس بولس عندما يشاهد المصلوب قائلاً: "لقد أحبني ومات من أجلي" (غل2، 20). لذلك يعتبر الروحانيون واللاهوتيون الصليب مثلَ الفراش الذي يجمع العروس مع العريس.
شكل آخر للاتحاد نجده في العشاء الأخير، حيث قال المسيح: "خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذا هو دمي(مت26: 26، 27 ) هو هنا يعطي كيانه، ويتحد معناوأيضاً في العشاء الأخير يطلب من الآب أن يوحدنا معه كما أنه هو واحد مع الآب (يو17).
ما أعلاه يؤكد ويثبت أن هدفنا في حياتنا على الأرض هو الوصول إلى الإتحاد مع المسيحفلا يمكن أن نعيش حياتنا اليومية بدون أن يكون هدفنا الأول وشغفنا ورجائنا (اللاهوتيهو الاتحاد مع المسيح، وأن نعمل كل ما في وسعنا حتى نصل إليه.

23- ماذا يفعل الذين يريدون أن يتعلموا؟

بدون شك، تحاول كل رعية أن توفرقدراً من التكوين الروحي لأبنائها، و تهتم بقضية التعليم الروحي للبالغين، وذلك يتفاوت من جهة لأخرى، وهناك طرق شتى لتحقيق ذلك، مثل ما يقدمه بعض الكهنة من كورسات ومحاضرات هدفها تعليم الحياة الروحية، وأيضاً ما يقدمه معهد التعليم الديني بالسكاكيني، وغيرها من الأماكن التي تهدف إلى تعليم وتوعية البالغين بالحياة الروحية.
أيضاً، هناك كتابات القديسين، من المهم قرائتها، ولكن لا ننسى أن الكتاب المقدس هو الكتاب الأساسي لنا، وأي كتاب آخر حتى وإن كان ملهماً، لا يقترب أبداً من درجة إلهام الكتاب المقدس، لأنه كلام اللهو لايقارن مع أي كتاب آخر.
أريد أن أذكّر أيضاً بضرورة ممارسة صلاة الإصغاء، والاستماع لكلام الرب يومياً من خلال القراءات اليومية، وقد أصدرت كتاباً شيقاً جداً يشرح ويصف هذه الصلاة حتى يسهل للمؤمنين أداؤهاوسيصدر قريباً إنشاء الله كتاب آخر عن "الصلاة القلبية".

أشير أيضاً إلى ضرورة قراءة كتب القديسين5هنالك كتب لقديسين كثيرين، لكنهم لم يتحدثوا كلهم عن الحياة الروحيةإذا أردنا أن نتعمق في الحياة الروحية وأن نبحر فيها فعلينا أن نذهب إلى "المعلمين الروحانيين". من "المعلمين الروحانيينالكبار الذين اعترفت بهم الكنيسة الكاثوليكية كملافنة، أي أعطتهم رتبة "معلمي كنيسةعلينا أن نذكرالقديس يوحنا الصليب، القديسة تريزا الأفيلية والقديسة تريزا الطفل يسوع، والحمد لله أعمالهم موجودة للقارىء العربي وممكن أن نضيف القديسة كاترينا السيانيةعلينا أيضاً ألا ننسى باقي المعلمين الروحانيين خاصة الشرقيين منهمالقديس أنطونيوس أبو الرهبان، القديس مقار، مار إفرام السرياني، القديس سمعان اللاهوتي الجديد، القديس يوحنا السلمي، إيفاجريوس البنطي، وأقوال آباء الرهبان..الخومن المعلمين الشرقيين أيضاً، هناك القديس غريغوريوس النيسي، وقد كتب حياة موسى، وأوريجانُس، وقد وضع تفاسير للتوراة، وسفر نشيد الأنشاد، وهي تفاسير هامة، ومفيدة روحياً والقديس ديونيسيوس الأريوباجي.
هنالك بعض المجهودات الحديثة لتقدمة كتب تكون بمثابة خلاصة لللاهوت الروحينذكر على سبيل المثال في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كتاب "حياة الصلاة الأرثوكسيةللأب متى المسكين وكتب أخرى ترجمت للعربية لمؤلفين كنيسة الروم الأرثوذكسأما عن الكنيسة الكاثوليكية ممكن على سبيل المثال أن نذكر كتاب "أريد أن أرى اللهللأب ماري أوجين الطفل يسوع، وهو من أجمل الخلاصات المتداولة (لم يترجم بعد ولكنه متواجد في كل اللغات الكبرى). أضيف أيضاً القديس جرينيون دي مونفور، وهو فرنسي، وقد تكلم عن العذراء مريم، وله كتاب اسمه: "التكريم الحقيقي للعذراء مريم".

24- كيف نصلي الصلوات التقليدية (القداس، الأجبية، الوردية، الخ):
أبالصلاة القلبية و ببصلاة الإصغاء؟

أبالصلاة القلبية:

قبل كل شيء نتناول العلاقة بين الصلاة القلبية وكل أنواع الصلوات أياً كانتالصلاة القلبية هي في الواقع حركة باطنية نرفع بها قلبنا إلى المسيح فيأخذه و يضعه داخل قلبه المضطرم بنار الحب.
هذه الحركة الباطنية تلاحم و اتصال مباشر مع الله، وتجعل كل صلاة فعّالةإن أي صلاة "بالروح والحق" (يو4، 23- 24)، تَحدث عندما نكون في المسيح الابن، أمام الآب، بالروح القدسالصلاة القلبية تدخلنا في المسيح وتضعنا تحت تأثير الروح القدسلذلك في المسيح، بالروح القدس، نستطيع أن نقول "أبانا الذي". التواجد في المسيح أو خارجه أمر حيوي، بالغ الأهمية، ويتوقف علينالذلك الكاهن يدعو المؤمنين قائلاً: "ارفعوا قلوبكم". بدعوته لهم يحثهم أن ينالوا النعمة الحالية للدخول في المسيحإذ إنه لا يكفي أن نكون معمدين حتى نكون فعلاً وحالياً في المسيحالمعمودية ليست نعمة جبرية في حياة الإنسان و لكنها تفتح مجالاً جديداً لاستخدام الحريةالمعمودية تؤهل الإنسان لإستخدام حريته بشكل جديد حتى يحب الله في كل لحظةالزمن في حياة الإنسان بعد المعمودية يختلف تماماً عن الزمن قبلهالقد وضع الله بين يدي المؤمن المعمد مقدرة جديدة على أن يحب اللهلقد أصبح في استطاعته أن يحب بالفعل في أي لحظة من نهارهوما هو"أن نحب اللهإلا أن "نقدم ذواتنا للرب كاملةً، بدون شروط وبلا رجعة، في نار الروح القدس". يذكرنا القديس بولس بمقدرتنا الجديدة، المعطاة من الله، على حبه، داعياً إيانا بأن نقدم كياننا ذبيحةً حيةً مقدسةً مرضيةً (أنظر رو 12، 1). علينا أن ننتبه كل الانتباه لملاحظة القديس بولس: "فهذه هي عبادتكم الروحية" (رو12، 1). إن هذا الكلام يعني أنه من الممكن أن نصلي بطريقتينواحدة روحية، في المسيح، بالروح القدس، وأخرى غير روحية، بالجسد والذهن فقطفي الأولى قلبنا متواجد داخل الله، تفيض الصلاة فيه من الله، فتصل إلينا، وتعمل فينا، وترجع إليه، أما في الثانية فالصلاة هي مخاطبة، من بعيد، لإله لسنا متواجدين فيه.
نفهم مما سبق أن الصلاة بالقلب، أو الصلاة القلبية، هي باطن كل صلاةوعلينا إذاً أن نتعلم ونتدرب على ممارسة الفعل الباطني – والتمرس يتطلب وقتاً وإتقاناًالفعل الباطني هو بمثابة إستخدام حريتنا ونعمة الله المعطاة لنا في المعمودية حتى نقرب ذواتنا إليهوعلينا أن نتدرب على دمج هذا الفعل الباطني مع أي صلاة شفهية6إن القديسة تريزا الأفيلية، في كتابها "طريق الكمال"، تشير إلى ضرورة تلاحم الصلاة الباطنية مع الصلاة الشفهية أياً كانتلأول وهلة، ممكن أن تظهر ضرورة دمج الحركة الباطنية مع الكلام الملفوظ كأمر صعبولكن بالتدريب، يتعلم المؤمن أن يرفع قلبه للرب كما يدعوه الكاهن في القداس مثلاً، وفي الوقت نفسه يتبع الصلوات كلهافي هذه الحالة اشتراك المؤمن في الصلاة الجماعية (في القداس مثلاًيكون فعلياً، روحياً ومثمراً7.
الصلاة القلبية التي هي العبادة بالروح والحق، تجعل المسيحي يختبر حالات جديدة يغدقه فيها الله بروحه القدوسهذا العمل الفائق للطبيعة للروح القدس هو من صلب الحياة المسيحية وليس حكراً على بعض المختارين، ولقد شرحه باستفاضة معلمو الكنيسة الروحانيون (على سبيل المثال، راجع كتابات القديسة تريزا الأفيلية).

بصلاة الإصغاء:

إن صلاة الإصغاء، كما نشرحها، هي امتداد لوليمة الكلمة في القداسفي مائدة الكلمة يأتي المسيح القائم من بين الأموات و يخاطب كل مؤمن مستخدماً قراءات القداسالإحتفال بالكلمة هو سر8 حقيقي، فيه يفتح المسيح فمه متفوهاً بكلامٍ هو "روح وحياة" (يو6، 63). الاحتفال بالكلمة في القداس هو أول الأسرار ورأسهاوهذا الاحتفال هوعبارة عن وليمة مطروح فيها لنا وجبة أساسيةفي مائدة الكلمة يجدد المسيح تجواله بيننا ووعظه للجموع فنصبح بها معاصرين للرسل والتلاميذ لا نقل حظاً عنهمإذا فُهِِمت هذه المائدة فهماً أعمق لركّز كل مؤمن انتباهه حول المسيح الحاضر بيننا الذي يفتح فمه ليعطي كلمات فيها قوة إلهية، هي قوة الروح القدس، قوة في إمكانها تغيير الإنسان يوماً بعد يوم و تحوله في المسيحإذا فهمنا هذه الأبعاد كل الفهم لكرسنا طاقاتنا لعملية الإصغاء وأتقناها كل الإتقان حتى تنجح يومياً وتدر خيرات جمةمن الصعب وبل من غير المنطقي تناسي هذا الكنز أو محاولة تعويضه بتدريبات تَقوية أضعف بكثير من حضور المسيح الحال في القداسلأسباب كثيرة، منها ضعف الإنسان، يفقد الإحتفال بالكلمة جلالته وفاعليته، لذلك على المسيحي التقي أن يعوض هذا الضعف بممارسة "صلاة الإصغاء".
فصلاة الإصغاء هنا إمتداد لمائدة الكلمة ولا تزيد عليها شيئاً بل إنها تسمح لنا أن نعيشها بملء و ننال كل النعمة التي يأتى بها المسيح لنا اليومعلينا ألا ننسى أنه ليس بالخبز وحده يحيا المسيحي ولكن بكل كلمة تخرج من فم المسيحولأهمية هذا الخبز الحي دعانا المسيح أن نطلبه كل يوم: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم". من فهم هذه الحقائق لا يستطيع التهرب من الأولوياتالسعي لنوال نعمة كلمة المسيح الموجهة له اليوم في صلاة الإصغاءيقول في هذا الصدد البابا بنديكتس السادس عشر: "إني مقتنع بأن النهوض بفاعلية بممارسة "صلاة الاصغاءسيجلب ذلك إلى الكنيسة ربيعاً روحياً جديداً"9.
نعلم بالخبرة أن تناول الكلمة، هضمها وفهمها، وتجسدها فينا هي عملية تأخذ ما يقارب الساعةإذا تبقى وقت عند المؤمن لأي تدريب آخر أو أي نوع آخر من الصلاة فليمارسهاغالبية الصلوات المعترف بها من الكنيسة نجد فيها كلام الله أي مقاطع من الكتاب المقدسفمثلاً الأجبية أو "صلوات الساعاتكلها ممتلئة من كلام الله؛ فالمزامير هي كلام الله المُلهم نرى فيها المسيح ونسمع صوته مخاطباً الآب، و يسمع فيها الآب عبر تلاوتنا لها صوت الابنبدون شك إن صلوات الأجبية، صلاة الفرض، أيضاً غذاء لناو لكن صلاة الأجبية لا تحل محل صلاة الإصغاء والعكس أيضاًإن صلاة الأجبية تجعلنا نتوقف مراراً عن العمل حتى نقدس النهار ونعترف أن الرب هو الذي يبني البيت (انظر مز127، 1). صلاة الأجبية ذات أهمية قصوى لممارسة كهنوت المسيح الذي يتشفع، عن طريق جسده السري، للعالم أجمع في كل ساعة من ساعات النهار.
يقال تقليدياً أن الوردية هي "إنجيل الفقيربمعنى أنه في العصور الوسطى كان الفقراء لا يعرفون القراءة، لكيلا يحرموا من الإنجيل، أي من أقوال وأفعال المسيح، رتبت الكنيسة أسلوباً بسيطاً ومركزاً حتى يحصل المؤمن على غذائه من الإنجيللذلك جمعت أسرار المسيح في ثلاث قوائم (وأضيفت قائمة جديدة حديثاًوهيأحداث فرح في حياة المسيح، أحداث آلامه وموته وأحداث مجيدة في حياتهالرغبة هنا واضحة هي أن نضع في متناول اليد تلخيص مُرّكز للإنجيلبدون شك كانت هذه خطوة ملهمة جد الإلهام خصوصاً باختيارها للعذراء مريم كمرجع أمثل لمشاهدة المسيح في حياتهإن العذراء في حد ذاتها أحسن وأعمق وأطهر موقع نستطيع به و فيه أن نرى ونحب المسيح إنجيلنا الحيمن هذا المنطلق تُلقي المسبحة الوردية على صلاة الإصغاء ضوء أشد إذ إنها توجه كياننا إلى أفضل وسيلة للإصغاء، فتدفعنا إلى أن نطلب من الله أن يعطينا قلباًً جديداً (حز36، 26-27) على شكل ومثال قلب العذراء، يستطيع استيعاب كلمة المسيح وحفظها والرجوع إليها بتكرار في بحر النهار (لو2، 51.19). فإنه لا مانع، بل بالعكس من المفضل، أن نأخذ مريم في خاصتنا (يو19، 27)، و نحن نمارس صلاة الإصغاءفالتوصل إلى طهارة قلب مريم هو مفتاح نجاح "صلاة الإصغاء".


__________


4 أنظر القديس يوحنا للصليب "شعلة حب متأججة" مقطوعة 1، البيت السادس.

5 من المهم التنويه إلى التفرقة بين "سير القديسينكما نكتبها نحن وكما يراها اللهإذا كان كاتب السيرة ليس لاهوتياً متبحراً في الحياة الروحية فمن الممكن هنا أن يصور القداسة بحسب خبرته الشخصية، ويحصرها في بعض التدريبات (كثرة الصوم، والصلاة والتقشف)، ولا يشرح أشياء كثيرة في غاية الأهمية، من غيرها لا يصل الإنسان إلى القداسةزيادة التركيز على بعض التدريبات الروحية أو الظواهر الخارقة من دون غيرها سوف يُعجّز القارىء بدلاً من أن يساعده على التقدمهذا التنويه هام جداً ويجب ألا ننساه.

6 الصلاة الشفهية هي كل أنواع الصلاة التي تقال بصوت مسموع كالقداس و كل الصلوات الجماعية كالأجبية و المسبحة الوردية الخ.
7 جدير بالذكر أن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني شدد كثيراً على مفهوم "الاشتراك المثمرللمؤمنين في الليتورجيا.
8 كلمة "سر" هنا لا تشير إلى أحد الأسرار السبعة ولكن علينا أن نأخذها بالمعنى العام للسر الذي يعني وجود إشارة حسية (الكلام) لنعمة غير حسية (المسيح الذي يعطينا كلامه الممتلىء نعمة).
9 المؤتمر العالمي لمرور 40 سنة على صدور دستور "كلمة الله" للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، جريدة الفاتيكان 17/9/2005، ص 5