٣٠ سؤال وجواب في الحياة الروحية
_________
لقاء مع رفيق خوري (١) حققه: الأب/ هدية تامر، ماجدة خوري و رضا بولس
أعدته: ميرفت قسيس
مقدمة
إنها أسئلة وأجوبة في الحياة الروحية تعمق ما نعرفه وتفتح أمامنا آفاقاً جديدة لمعرفة وثقافة روحية نحتاجها بالضرورة في طريق بناء حياة روحية حقيقية وعشرة حميمة مع الثالوث في قلب الكنيسة وبتوجيه ورعاية مريم العذراء أم المسيح وأم الكنيسة.
أشكر الأخ رفيق خوري على هذا المجهود المشكور وننتظر منه المزيد في هذا المجال.
كما أصلي أن يجعل الرب هذا الكتاب سبب بركة لكل من يقرأه.
+ الأنبا بطرس فهيم
1- ما هو تعريف "اللاهوت الروحي"؟
"اللاهوت الروحي" هو فرع من فروع علم اللاهوت المقدس. موضوع دراسته هو "الحياة الروحية": أي حياة المسيح في الإنسان ونموها. من المواد التي تدرس فيه: الحياة الروحية، أهدافها، أطوارها، الوسائل (أنواع الصلاة والنسك)، للوصول إلى الأهداف والتمييز الضروري لإدارة النفس حتى تصل إلى الأهداف بأمان وبدون تأخر.
إنه علم تطبيقي في المقام الأول. إنه العلم الخاص "للمعلمين الروحانيين". "المعلمون الروحانيون" هم في الكنيسة فئة خاصة في غاية الأهمية، إذ إنهم يتولون مسئولية التكوين الروحي في الكنيسة؛ هم في الإكليريكيات وفي أديرة الإبتداء وأديرة التكوين. نجدهم أيضاً أحياناً بين الكهنة الرعاة.
التكوين الروحي و النمو في الحياة الروحية يتطلبان منا ليس أن نتعلم "اللاهوت الروحي" فقط ولكن أيضاً: 1- أن نمارس الحياة الروحية وأن نختبر الروح القدس 2- أن نمارس التمييزالروحي (٢) والاسترشاد. علم التكوين الروحي أي علم اللاهوت الروحي، ليس فقط هو تعليم عن الحياة الروحية، ولكن أيضاً هو نقل وسائل وممارسات (أنواع الصلاة والنسك) وكيفية تطبيقها بفطنة وحكمة وتمييز، حتي تنمو حياة المؤمن الروحية.
علم اللاهوت الروحي "نظري" و"استنباطي"."نظري"، أي ينهل من "الوحي الإلهي" كل ما يعلمه لنا عن الحياة الروحية. "استنباطي"، أي إنه يدرس سيرالقديسين، ويستخرج منها العناصرالأساسية لخط سيرالحياة الروحية ونموها وشروطها. خبرة المعلم الروحية والتمييز الروحي يجعلانه يدمج الحركتين (النهل النظري و الاستنباط) بحكمة وحرص إلهيين. بهذا الشكل يستطيع أن يقدم للمؤمن غذاء قوياً، ووسائل للتمييز، حتى يستطيع المؤمن أن يميز في نموه الروحي ما يحدث له من أطوار ونعم قد نالها.
2- ما المقصود ب "الحياة الروحية"؟
الحياة الروحية هي، كما قلنا، حياة المسيح فينا ونموها. المعمودية هي هبة من الله، الثالوث، يعطينا فيها المسيح كبذرة صغيرة عليها أن تنمو فينا حتى تصبح شجرة كبيرة. ممكن أيضاً أن نعرف "الحياة الروحية" كالآتي: هي استعادة الحياة بالروح القدس، أي أن نعيش منقادين به كما أشار القديس بولس في كثير من رسائله (مثلاً رو8، 4-5؛ 14). لقد عرف أيضاً الآباء هدف الحياة الروحية بالسعي إلى اقتناء الروح القدس. بالطبع لا نستطيع أن نفصل بين الحياة مع المسيح والحياة بالروح القدس.
نذكر أن "الروحية" في لفظ "الحياة الروحية" تشيرإلى "روح الإنسان" و أيضاً إلى "الروح القدس"، إذ له الدور الأساسي في الحياة الروحية و التقديس.
ونذكر أيضاً أن"روح الإنسان": تشير إلى بُعد من أبعاد الإنسان. فالإنسان مكون من جسد ونفس وروح، مثلما أشار القديس بولس لأهل تسالونيكي:"ليحفظ الرب جسدكم ونفسكم وروحكم" (1تس5، 23).
3- وضح لنا أبعاد الإنسان: الجسد والنفس والروح؟
"الجسد" نستطيع أن نميزه ونعرفه، ولكن أريد أن أضيف العقل إذ أنه سر عجيب ينتمي للجسد ولكن هو همزة الوصل بين الجسد والنفس. فهمنا للمخ قد ازداد بشكل لم يسبقه مثيل في التاريخ منذ ثلاثة عقود. إذا كان اليوم من المبكر التلفظ بنتائج أخيرة وثابتة فإننا على الأقل نستطيع أن نكتشف أبعاداً جديدة لدور المخ في حياة الإنسان والإقلال من بعض ما كان ينسب إلى النفس.
أما "النفس" فهي أصعب قليلا في تعريفها، ولكن يمكن أن نفهمها لأننا نلمسها عن طريق الجسد. أهم قدرتين للنفس هما: العقل والإرادة. يعمل العقل ليكون الفكر مثلا: "ماذا عليّ أن أفعل؟"، و"كيف أخطط لأفعالي؟" وهكذا. الإرادة وهي قدرة من قدرات النفس تساعدني على أن أقوم بالأفعال بحسب التوجيهات التي تأتي من العقل، ويقوم الجسد بهذه الأفعال.
نرى هنا الربط بين النفس والجسد، وكيف أن النفس تعبر عن نفسها في الجسد وبالجسد وذلك عن طريق المخ. النفس غير مرئية، ولكنها ملموسة في أفعالها ونتائجها بسبب الجسد. إن في بعض الأمراض التي تصيب المخ (كالزهايمر الحاد) يفصل فيها المخ العاطل بين الجسد والنفس. ويظهر لنا أننا لا نتعامل مع الشخص الذي عرفناه، ويصعب أيضاً على هذا الشخص أن يتواجد في جسده ويعبر عن ذاته بنفسه وروحه كما كان الحال من قبل. إنه لم يفقد نفسه وروحه ولكن المخ بدلاً من أن يكون وسيط حتى الوصول إلى الجسد أصبح عازلاً. هذا المثل البسيط يجعلنا نلمس عن قرب وحدة التعامل الدائمة بين الروح والنفس والمخ والجسد.
نريد أن نضيف أن في التقسيم التقليدي للفلاسفة هنالك جزءان في النفس:
1- النفس العقلانية التي تجعلنا أقرب إلى الملائكة، والنفس الحيوانية التي تقربنا للحيوانات. النفس العاقلة فيها العقل و الإرادة والحرية والذاكرة والمخيلة والحدس والحس الباطني والعاطفة.
2- النفس الحيوانية فيها كل ما نجده في الحيوانات المتطورة من "عقل" حيواني و"ذاكرة" حيوانية و"عاطفة" حيوانية وغريزة.
علينا أن نشير أيضاً بحسب نتائج علم النفس الحديث أن هنالك في النفس جزءاً واعياً يضم كل ما ذكرناه أعلاه من قدرات، وجزءاً آخر يسمى ب "اللاوعي".
أما "الروح" فهي صعبة التمييز، فهي العقل والإرادة في حالهما السامي المنفعل. الروح أعلى جزء في النفس. الروح هي همزة الوصل بين الله والنفس العاقلة. الروح ليست اللاوعي ولكنها "فوق الوعي" أي فوق النفس العاقلة. حتى نفهم العلاقة بين الروح العاقلة الواعية الفائقة للوعي ممكن أن نأخذ مقارنة بسيطة:
إذا اعتبرنا أن النفس عبارة عن جبل عالٍ يخترق السحب، فهنالك جزء من هذا الجبل يقع تحت السحب، وجزء آخر مخترق للسحب ويستطيع أن يرى الشمس. الشمس هنا كناية عن الله. الجزء الأعلى من الجبل الذي يرى الله هو الروح. الجزء الذي يقع تحت السحب هو النفس العاقلة الواعية. النفس الواعية لا ترى ولا تشعر بالله مباشرةً. ما يقع في حوزة النفس الواعية، أي العقل والإرادة الواعيان، هو مثلاُ كلام الله فهو يفهم بعقلنا الواعي ونستطيع أن نعمل به بإرادتنا. ولكن ما يقع في حوزة الروح هو الطبيعة الإلهية فعندما نتناول جسد ودم المسيح نتناول أيضاً لاهوته. النفس في هذه الحالة (وهي تقع تحت السحب) لا تستطيع أن تلمس مباشرةً الطبيعة الإلهية. الروح في بداية طريق الحياة الروحية هي "نصف ميتة" (لو10،30) وعليها أن تولد من جديد (يو3، 3) نقية، طاهرة، قد استردت مثال الله (الإنسان خلق على صورة الله ومثاله (تك1، 27)). وتستطيع معاينة الله مباشرةً، متحولة فيه(٣) : "طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الرب" (مت5، 8
4- أين هي العين المدعوة لرؤية الرب في الإنسان؟
إن الروح هي العين الداخلية السامية التي تجعلنا نرى الله. كلما تغيرت الروح ونمت في الله وتطهرت، استطاعت أن ترى قدر أكبر من ذات الله.
إذن الروح لها دورأساسي ومهم جدا، لذلك آباء الكنيسة عندما فسروا كلام الوحي في سفر التكوين، "أن الله خلق الانسان علي صورته كمثاله"، (تك1، 27). قالوا إن الصورة هي الروح التي خلقها الله وأعطاها شكله، أي أنها يمكن أن تتواصل مع الله بدون وسيط، وهذه هي الدعوة الأساسية والحقيقية للإنسان، أن يعرف الله و يراه، هنا على الأرض، وليس بعد الموت. أي أن نندمج مع كيان الله ونتواصل معه، فنعرفه ونحبه.
قال القديس توما الأكويني إن الحياة الأبدية تبدأ بعمل النعمة فينا من هنا على الأرض، المسيح جاء ليعطينا حياة، وهي تبدأ من لحظة دخول الروح القدس في حياة الإنسان المسيحي.
الروح، هي جزئية في الإنسان المدعو لقبول الروح القدس، حتي يعيد الشكل أوالمثال الذي فقده بالخطيئة، وبتقديس الإنسان يرجع ليصير شبه الله، وتكون هذه هي الولادة الجديدة التي تحدث عنها المسيح في حديثه مع نيقوديموس، في انجيل يوحنا الفصل الثالث: "لا يستطيع الانسان أن يرى (يدخل) ملكوت السموات إن لم يولد من جديد" (يو3، 3).
في القداس يقول الكاهن: "السلام لجميعكم"، ونحن نرد عليه: "ومع روحك أيضا"، الروح هو عين النفس التي تسمح لها أن ترى الله، وهدف الحياة الروحية أن تتطهر النفس لتستطيع أن ترى الله مرة أخرى.
"طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله"، (مت5،8). ونتيجة لهذه الطوبى أننا نستطيع أن نعاين الرب، وهذا هو هدف الحياة الروحية.
5- أعطنا فكرة عن دور العذراء مريم في الحياة الروحية؟
دور العذراء مريم هام جدا ً في الحياة الروحية، هناك كثيرون يقولون إن الإنجيل لم يتحدث كثيراً عن العذراء، وهي تحدثت قليلاًًًَ جداً، كما أن هناك اعتراضات من كثيرين عن المبالغة في تكريم العذراء، مع أنه لا يوجد أساس لذلك في الكتاب المقدس. الحقيقة غير ذلك. لأنه بنظرة دقيقة في الإنجيل، هناك نصوص صريحة يمكن للمؤمن أن يبدأ منها الدخول إلى النصوص غير الصريحة. مثلا، الكلام عن الثالوث الأقدس في أماكن قليلة جدا ً في الكتاب المقدس، مع أنه عقيدة ثابتة في إيماننا. الشيء نفسه عن لاهوت المسيح، مشارله قليلاً، مع أننا نؤمن أن يسوع المسيح الذي يتحدث في أي نص من نصوص الكتاب المقدس هو الله ذاته. الشيء نفسه بالنسبة للعذراء، هناك أماكن في الإنجيل تتحدث عنها، وتشرح الدور التي تقوم به، مع أنه في أماكن أخرى نجد العذراء صامتة، وهذا لا يعني أنها غائبة.
مثلا، في بداية إنجيل يوحنا، في أول آية صنعها المسيح، في الاصحاح الثاني، عند تحويل الماء إلى خمر، كانت العذراء هناك. القديس يوحنا عندما كتب انجيله بناه بشكلٍ هندسي، فوضع لنا العذراء في بداية آيات المسيح، في أول خطوة من خطوات الإيمان، إذ أن هدف إنجيله هوأن يجعلنا نؤمن بلاهوت السيد المسيح، أي أن يسوع الناصري ليس بشراً فقط، ولكنه أكثر من ذلك، هو الله وواهب الحياة. حتى نستطيع أن نقبل إليه، وضع لنا القديس يوحنا العذراء مريم في بداية الآيات التى تؤدي إلى الإيمان، مع أول آية صنعها يسوع. هذه إشارة إلى أن خطوات الإيمان و نضوجه لهما رباط وطيد بالعذراء مريم. ولو قرأنا جيداً نص إنجيل قانا الجليل، نجد أن التلاميذ توجهوا إلى يسوع لأن العذراء وجهتهم نحوه. فهى لم تقل "ليس لدينا خمر" (و"الخمر" تشير هنا إلى العلاقة والحياة مع الله) ولكنها قالت: "ليس لديهم خمر"، أي إن الكتاب يقر أنه توجد علاقة بينها وبين المسيح. تقول بين السطور: "لدىّ هذا الخمرالجديد". هكذا آمن الرسل بالمسيح، بإيمان و بدعوة العذراء مريم لهم.
كما أن يوحنا الانجيلي بدأ كلامه عن المسيح مع العذراء في آية قانا الجليل، كذلك أنهى إنجيله بالآية الكبرى وهي الصليب أيضاً مع العذراء مريم. وقد سماها في كلا النصين "إمرأة" وهذا اللفظ له دلالة سأشرحها لاحقاً . أي إنها – العذراء – موجودة في الأول وفي الآخر، والإشارة – لمن يريد أن يفهم – إنها هبة موجودة طول الطريق. وكأن القديس يوحنا يقول لنا : ركزوا وافهموا وتعمقوا في آية قانا الجليل تجدوا العذراء، أيضا بالتركيز والفهم والتعمق في الآية الكبرى "الصليب" نجدها أيضا. معنى ذلك أنها متواجدة على طول طريق الإيمان.
وينتهي حدث الصليب عندما قال السيد المسيح ليوحنا: "هذه أمك" ويقول للعذراء أيضا: "هذا ابنك"، والمسيحيون، على مدارالتاريخ، فهموا أن هذا الكلام لم يكن موجها ليوحنا فقط بل لنا جميعا، إذاً المسيح عندما قدم لنا أغلى شيء – أمه – له هدف معين. هذا بإيجاز عن إنجيل يوحنا.
الشيء نفسه في إنجيل لوقا، لها دور أساسي في بداية الايمان، وفي طريق الايمان، وفي اكتمال الإيمان، كما قال القديس بولس أننا يجب أن نصل إلى "ملء قامة المسيح"، وأن نحيا فيه، ويكتمل ايماننا، وتصبح العذراء هي القالب الذي يكمل إيماننا ويتممه.
في الإصحاح الأول لإنجيل لوقا بشارتان، البشارة الأولى لزكريا، وقد فشلت (إذ أن زكريا لم يؤمن بكلام الرب)، والبشارة الثانية للعذراء مريم التي نجحت (ولكن العذراء بدورها قد آمنت بكلام الرب). إذا نظرنا بتدقيق إلى بشارة العذراء سنجد أنها قالت "نعم" للملاك لذاتها و لزكريا وأليصابات. هذه إشارة واضحة لنا أننا، كزكريا، لا نستطيع أن نؤمن بكلام الرب بقوتنا، ولكن علينا أن نلجأ إلى التي آمنت لنا و نستقي منها ومن "النَعم" التي قالتها، القدرة على الإيمان بكلام الله. لذلك جميع الأجيال تطوبها (لو1، 49).
كل ذلك يوضح لنا دور العذراء مريم الأساسي والحيوي في حياتنا الروحية.
هذا السؤال مهم لأنه لايكفي أن نعرف فقط معلومات عن الحياة الروحية، ولكن علينا أن نمارس ما تعلمناه. وهذه فائدة علم اللاهوت الروحي إذ إنه يركز على التطبيق العملي للحياة الروحية ومتابعتها والتمييز فيها. كما قلنا إن في علم اللاهوت عدة مجالات: الكتاب المقدس، العقيدة، الأسرار، اللاهوت الأدبي، اللاهوت الروحي..إلخ. إن اللاهوت الروحي يدرس علاقة الإنسان مع الله، أي أنا كإنسان كيف أدخل في علاقة شخصية مع الله؟ ماذا أفعل حتى أصِل إلى الإتحاد بالمسيح؟ وكيف أنمو عمليا؟.
حتى نفهم تأثير الحياة الروحية في حياتنا العملية، علينا أن نفهم العلاقة بين بنية الإنسان وبنية المسيح (أي بنية الإنجيل وبنية القداس). إن بنية حياة المسيح العلنية (ثلاث سنوات ونصف) تنقسم إلى جزئين، كما أن الإنجيل جزءان: الجزء الأول يتضمن تبشير المسيح، والجزء الثاني هوآلام وموت وقيامة المسيح. إن المسيح بأكمله، أي بجزئي حياته، هو غذاء الإنسان. في الجزء الأول يعطينا وليمة كلماته التي هي روح قدس وحياة إلهية فينا. وفي الجزء الثاني يعطينا جسده ودمه أي كيانه بأكمله.
إن بنية الإنسان أيضاً تنقسم إلى جزئين: جزء حسي عقلاني واعٍ (الجسد والنفس)، وجزء أعمق يفوق الوعي (الروح أو القلب). كلا الجزئين بحاجة إلى غذاء. الجزء الواعي في الإنسان، أي العقل والإرادة غذاؤه كلمات المسيح في وليمة الكلمة وهي الجزء الأول من القداس حيث يكلمنا المسيح الحاضر بيننا خاصةً في لحظة قراءة الإنجيل. الجزء الأعمق من كياننا غذاؤه هو جسد ودم المسيح في وليمة الافخارستيا وهي الجزء الثاني من القداس، حيث يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح. حتى يتغير كياننا وحياتنا العملية، علينا أن نغذي كياننا كله بجزئيه، أي أن علينا أن ن عليناأن علينا
نعيش المائدتين بالفعل (مائدة الكلمة، ومائدة جسد ودم المسيح)، والمشكلة أننا لا نعرف أن نجلس ونأكل. كثيراً ما نركز علي أشياء أخرى في الحياة المسيحية والحياة الروحية، مثل الخطايا، وغيرها، ولكن في الواقع واجبنا الأساسي والحيوي، أي أن نجلس ونأكل، لم نقم به. نتيجة ذلك هو أننا لا نصبح ضعفاء فقط ولكننا مصابون بالأنيميا.
هذا التشخيص يجعلنا نفهم لماذا حياتنا المسيحية الروحية قلما تؤثر على حياتنا العملية.
7- كيف يمكننا أن نتغذى لئلا نصاب بهذه الأنيميا؟
أبدأ من الوضع الحالي لأغلب المسيحيين: الذهاب إلى الكنيسة، حيث المسيح بيننا يكلمنا ويعطينا ذاته.
هذا الإختبار الإسبوعي للقائم من بين الأموات يمكن ألا يعاش بقوة كما يجب، فلا يصبح غذاءاً حقيقياً. بمعنى أني مثلا بعد مرور دقيقتين من المناولة، أعود إلى حياتي العادية، دون أن أعيش هذا العمق، فلا أعطي المسيح الذي تناولته مجالاً ليؤثر فيّ.
الشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة للكلمة من خلال القراءات: قد أكون غير منتبه وقت تلاوة القراءات، ولا أعيش هذه اللحظات على أنها لقاء فعلي مع المسيح الذي يكلمني.
إننا في القداس نحتفل بالأسرار (سر الكلمة وسر جسد ودم المسيح). ولكن الخطر الذي يهددنا هو ألا نتناولها بكل فاعليتها. لذلك علينا أن نفهم ما معنى السر حتى ندخل فيه بعمق ونرتوي من الماء الحي مباشرةً.
فالسر له وجهان، وجه مرئي، وآخرغيرمرئي. المعمودية مثلا: يوجد بها وجه مرئي وهو الماء المستخدم، ووجه غيرمرئي وهو نعمة الروح القدس المعطاة للشخص المعمد. كذلك نجده في المناولة: هنالك الخبز (لكنه في الجوهر لم يعد خبزاً) وهنالك واقع جسد المسيح الحي.
حتى نفهم عِظم يوم الأحد الذي هو احتفال أسبوعي بالقيامة، وحتى نفهم معنى تواجدنا في الكنيسة، علينا أن نرجع إلى هذه اللحظات التي عاشها الرسل المجتمعون في العلية، والأبواب مغلقة، عندما ظهر لهم المسيح بعد القيامة وكسر الخبز وناولهم. إن الحدث نفسه يتكرر كل أسبوع: المسيح القائم من بين الأموات لايزال بيننا يظهر لنا في الكنيسة والأبواب مغلقة. لذلك يكررالكاهن في القداس كلمات المسيح للتلاميذ عدة مرات: "السلام لجميعكم"، حتى نعي أن المسيح القائم من بين الأموات بيننا يكلمنا ويعطينا ذاته. من السهل أن نفهم أن هذه اللحظات يمكن أن تعاش بشكل سطحي وروتيني. لذلك من المفروض أننا عندما نعود إلى منزلنا، نسترجع هذه اللحظات، مثل رصيد روحي لنا زادت قيمته، حتى نستفيد منها بعمق. "رصيدنا زاد" لأن هبات الله زادت فينا، وهو لايمكن أن يستردها مرة أخرى. من الخطر أن تصبح هذه الهبات غير مستخدمة مثل الوزنات المدفونة.
كيف أستثمر هذا الرصيد بشكل عملي؟
أولا، بذهابي إلى القداس واستماعي إلى الكلمة يزيد رصيدي من حيث الكلمة، فهي نعمة موجهة لي أنا شخصيا. إذا كان هذا الغذاء قد أعطي لي في القداس، فعليّ أن أراجع مرة أخرى هذه القراءات كغذاء يجب أن آكله وأهضمه، لأن الله يريد من خلاله أن يوجهني لعمل شيء معين في النهار. لذلك يجب أن أستخدم الفطنة والذكاء الروحي، وأعطي مساحة من الوقت خارج القداس، حتي أستطيع أن أستعمل هذه الزيادة في الرصيد، ولا أدفنها مثل الوزنة، لأن عقابي سيكون أكبر لأني أخذت أكثر. للأسف كثيراً ما ندفن وزنات ولاندري، أي نذهب للكنيسة ونعود شكلياً، أو نأكل قليلاً بدلاً من أن نأكل من الوليمة التي أعدها الله لنا. فنحن مثل أب جاءه ابنه وقت الغذاء وقال له إنه جائع، ماذا سيعطيه؟ هل سيعطيه قطعة صغيرة من البسكويت، أم سيعطيه وجبة كاملة بها كل العناصر الغذائية اللازمة له؟ إن تصرفنا في القداس مشابه: بدلا من أن نأكل وجبة كاملة، نكتفي بقطعة من البسكويت. نتذكر أيضا مثل الزارع (مت13، 3-8) الذي يقول: "خرج الزارع ليزرع"، "فسقطت بعض البذورعلى أرض ليس لها عمق"، ولم تدخل البذورفي الأرض، فلم تأتِ بثمر. ذهابنا إلى القداس كثيراً ما يشبه هذه الأرض: يحتاج إلى عمق.
مما سبق، نفهم جيداً أن هنالك بعداً شخصياً في المؤمن المحتفل بالسر، ولهذا البعد وجهان: وجه ظاهري وهو الجسد المتواجد في الكنيسة، ووجه غير ظاهري وهو النفس والروح. إذاً يمكن أن يكون المؤمن متواجد بالجسد في الكنيسة، ولا يكون حاضراً بالنفس و الروح أي بالعقل والقلب، ونتيجة ذلك أنه لا يأكل الغذاء المعروض أمامه (الأسرار). نفهم أخيراً لماذا قال المسيح أن العبادة الحقيقية التي ينتظرها الله منا هي عبادة "بالروح والحق" (يو4، 23).
8- كيف تؤثر هذه الكلمات علي حياتي بشكل عملي؟
سنأخذ مثلا مائدة الكلمة، وهي الجزء الأول من القداس، هناك نصان أو ثلاثة، أراجع هذه النصوص، من خلال هذه القراءات أجد كلمة أو جملة يستخدمها الرب ليخاطبني بها (ونلاحظ أن الله هو المتكلم في النصين)، أي يعطيني غذاء وينيرني به. مثلا يقول لي: اذهب وتصالح مع أخيك، ويصبح هذا الكلام حياً بالنسبة لي أنا شخصياً، إنه يخاطبني في ضميري بقوة الروح القدس، وهذا ما أطلبه في بداية الصلاة، وعلى قدر ما أطلب بشغف وإيمان، سوف أنال من الرب.
9- أعطيتنا مثل المصالحة مع الآخر، ولكني غيرقادر- ما التصرف؟
نلاحظ أن كلام الله ينير العقل، ويعطي الإرادة تحدياً - إنه يلقي ضوءاً على علاقتي مع شخص معين، ولكن على طريقته هو، بداية الصلاة هي أني أسمع ماذا يريد الرب، وليس ما أريده أنا، نترك الله يكون الأول. الفرق بين كلامي وكلام الرب، أنه غير متوقع، الله يحدثني عن شيء، أنا أرفضه بإرادتي، لأن لو الاختيار لي، كنت سأختارشيئا يوافق إرادتي.
إذاً هنا فعل المصالحة هذا هو نورجديد معطى وغيرمتوقع.
أول إشارة أن هذا الكلام معطى من الله، أن النصين يقولان كلمة واحدة، أو فعلاً واحداً فقط، نوراًواحداً، لو فرضنا أن النص الأول به خمسة أفكار، والنص الآخر به عشرة أفكار، أصبح عندي خمس عشرة فكرة، هذا مرفوض لأني لا أقوم بتحليل النص، صلاة الإصغاء هي عبارة عن فكرة واحدة في النص الأول و فكرة واحدة في النص الثاني، وتكون الحصيلة أيضا فكرة واحدة، أو فعلاً واحداً، يحدثني الرب من خلاله.
الرب يخاطب العقل، ولكن ليس بالأفكاروالنظريات فقط، بل أيضا يخاطب الارادة حتى تتغير، اذاً كلام الله دائما يطبق عملياً، لأنه يخاطب الإرادة التي تتمم- وكلام الرب هنا متجسد، نحن في أوقات نقرأ ونجد أفكاراً روحية ونشاهد حقائق رائعة، ولكنها لا تدخل إلى حيز التنفيذ أو التطبيق الفعلي في حياتنا اليومية، نحن لا يمكننا أن نقطع النظرية من نصفها، بدون أن تتجسد فينا، لأن الكلمة تجسد وأصبح كلمات، وكل كلمة تخرج من فم الرب هي بمثابة غذاء للجسد والنفس والروح.
نعود الى مثل المصالحة، سنفترض أني أرفض هذا الفعل، ولكن بداخلي حسّ من الإنسان الجديد يعرف أن في هذا الفعل مصلحتي، كما أن هذه هي إرادة الله الذي يستطيع أن يفعل ذلك، وهذه خاصية من خواص كلام الله؛ إنه يطلب فعل صغير، هو مستحيل بالنسبة لي أنا، ولكنه مستطاع عند الله.
عندما يدري المسيحي أن تنفيذ كلام الرب ليس صعباً فقط ، ولكنه مستحيل، عندها يبدأ أن يكون مسيحياً حقيقياً، لأنه سيبدأ يعتمد على الروح القدس. المصالحة (مثلا) ليست قدرة من عندي، ولكنها من عند الله.
علامات كلام الله:
- النصان يقولان "كلمة واحدة" أو فعلاً واحداً.
- إن هذا الشيء له طعم "جديد" معطى من عند الله.
- إنه يلمس نقطة "عملية"، أي تجسد.
- إنه فعل "صغير" (لم يقل لي أنقل جبلاً مثلا).
- إنه "مستحيل" لقوتي أنا، ولكنه ممكن بقوة الروح القدس.
10- نفترض أن الطرف الآخر رفض التصالح، ما العمل؟
مع أن هذا السؤال خارج نطاق صلاة الاصغاء أو مائدة الكلمة، ولكن أريد أن أوضح أنه لا يوجد تأكيد أو ضمان أن الطرف الآخرسيقبل التصالح اليوم، وبالشكل الذي أريده أو أتوقعه، المهم أني أنفذ المطلوب عمله مِني، ثم أترك النعمة تعمل داخل الطرف الآخر. الله يحترم حرية الإنسان الآخرمثلما يحترم حريتي.
الفعل الجديد الذي أفعله بقوة الروح القدس ينتج عنه شفاء لجزء من كياني الداخلي المريض (الإنسان العتيق)، ويوماً بعد يوم يحدث تغيير وتطهير لهذا الكيان الجديد.
____________
1
رفيق خوري، لاهوتي كاثوليكي مصري، متخصص فى "اللاهوت الروحي"، مدرس في الجامعات اللاهوتية، لي عدة كتب عن الحياة الروحية، ومؤسس "مدرسة مريم". "مدرسة مريم" هي مدرسة للتكوين الحياة الروحية متواجدة في عدة بلدان منها مصر. انظر.www.amorvincit.com
2 ممارسة "التمييز الروحي" تسبق ممارسة "فحص الضمير" وهي أعلى منها. إذا كان "فحص الضمير" يجعلنا نراجع أفعالنا ونقارنها مع ما نعتقد ضميرياً أنه صواب، ف"التمييز الروحي" بدوره يراجع هذا الاعتقاد الضميري ويصححه. هذه المراجعة تحدث فينا نمواً روحياً. إذ كلما تقدم الإنسان في الحياة الروحية تطهر وتحول في روحه ونفسه، مسترداً شيئاً فشيئاً مثال الله الذي فقده. هذا التحول يحسن قدرتنا على التمييز فيجعلها يوماً بعد يوم في آنٍ واحد جديدة وأدق من السابقة. التمييز الخاص بالمبتدىء لا يقارن بتمييز المتقدم في الحياة الروحية أو بتمييز التلميذ الكامل (أنظر القديس بولس في 1كو3، 2) حيث يتكلم عن أنواع مختلفة للغذاء الروحي وفي 2كو11، 14 حيث يدعو إلى ضرورة التمييز بين الخير الروحي الحقيقي والخير الزائف).
3 يستطيع الإنسان أن يعاين الله بقدر تحوله فيه. كلما كان الإنسان شبيهاً بالله كلما ازداد نور الله فيه فإذاً يستطيع معاينة الله بنور الله: "بنورك نرى النور" (مز36، 9) وأيضاً: "إذا أُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1يو3، 2).
الله معاك أبونا٫
ردحذفهل لديك نفس المواضيع في اللغة الفرنسية لو سمحت ؟
شكراً لك لهذه المواضيع الغنية والممتلئة من الروح القدس
الشدياق شربل معوض
اخي العزيز شربل،
ردحذفاشكرك لتعليقك. نعم هنالك ثلاث كتب في الحياة الروحية.
Jean Khoury, "Lectio Divina à l''Ecole de Marie", Editions Docteur Angélique.
Jean khoury, "La Prière du coeur à l''école de Marie", Editions Docteur Angélique.
Jean Khoury, "Entretiens sur Marie", Editions Docteur Angélique.
شكراً جزيلاً
ردحذف