11- ماذا عن الجزء الثاني من القداس- أي مائدة جسد ودم المسيح؟
هذه المائدة أشمل وأعمق، أشمل لأني أتناول جسد المسيح ودمه ونفسه وروحه ولاهوته، وأعمق لأنها تؤثر أساسا علي أعماق الإنسان أي روح الإنسان.
لحظة المناولة هي لحظة وجيزة في الزمن، ولكنها دعوة لأن تكون ممتدة ولها تأثير دائم وشامل في حياتي.
إن ذلك يتم في "الصلاة القلبية"، أو "الصلاة الصامتة". هذه الصلاة مرتبطة مباشرة بلحظة المناولة، وهي بمثابة إمتداد لهذه اللحظة.
بعد القداس عندما أعود إلي البيت، أستعيد هذه اللحظات، وبذلك أفتح الباب للمسيح حتى يؤثرفيّ بروحه القدوس بشكل أطول و أقوى وأعمق.
هذه الصلاة موجودة في الكنيسة الشرقية وتسمى ب "صلاة يسوع"، ونجدها مثلاً في كتاب "سائح روسي على دروب الرب" الذي يعلمنا إياها، وهي مذكورة أيضا في كتب أخرى كثيرة.
وفي الكنيسة الغربية تسمى هذه الصلاة ب "الصلاة العقلية" ((oratio mentalis أو"الصلاة القلبية". تعلمها القديسة تريزا الأفيلية والقديس يوحنا للصليب (كتبهم مترجمة إلى العربية) وغيرهما كثيرون.
"صلاة يسوع" هي فعل باطني يقدم فيه الإنسان ذاته للرب فيأتي ويأخذه ويغطسه في كيانه ساكباً فيه نار محبته. في الواقع "صلاة يسوع" هي تجعل الإنسان يسترجع في قلبه لحظات المناولة، سامحاً للمسيح أن يسكب روحه القدوس في أعماقه. "صلاة يسوع" هي امتداد للمناولة الأخيرة تعطيها مساحة وزمن لتفعيلها. هل يعني ذلك أن المناولة لا تعطي مفعولها من نفسها؟ بلى ولكن بشكل وجيز لأن الرب يحترم حرية الإنسان فلا يسكب ذاته في الإنسان غصباً. على الإنسان أن يستغل نعمة المناولة الاستغلال الصحيح بالاجتهاد بالبقاء في المسيح بعد المناولة. لقد أوصانا مرات عدة أن نسكن فيه (يو15، 4) حتى نفعل نعمة المناولة. لأن من السهل على الانسان ألا يثبت في المسيح . لقد وضح المسيح لنا الرباط الوطيد الكامن بين المناولة و"صلاة يسوع" "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت (يسكن) في وأنا فيه" (يو6، 56). بالتناول، يسكن بداخلي وعليّ بممارسة "صلاة يسوع" أن أجتهد ساهراً حتى لا أخرج منه و أتركه وحده. إن حدث وخرجت فالرجوع والسكني في الله، هذا أمر يعود لي أنا، وهذه نعمة معطاة لي، ويجب أن أستجيب لها.
المناولة أساساً لقاء حبيبين، وحتى تعطي المناولة فاعليتها عليّ أن أعطي ذاتي كاملة له حتى يعطي هو ذاته كاملةً لي. وما هي المعمودية إلا إعطاء الذات كاملة للرب، بدون شروط وبلا رجعة. في ذلك، وتتجدد المعمودية عند المناولة وعندما نصلي "صلاة يسوع". بها أسمح للمسيح أن يسكب ذاته في كياني لكي يغيرني بقوة الروح القدس.
نلاحظ أن "صلاة الاصغاء" تنير وتغير العقل وتشفى وتطهر الإرادة، وأما "الصلاة القلبية"، أو"صلاة يسوع"، فإنها تغذي اعماق وجذور الإنسان، أي روحه، وهذه الروح مثل شجرة تدب أعماقها في الله وتتغذى منه مباشرة، فيجب أن نستجيب لهذه الدعوة من الرب، ونغطس كياننا في كيان الله، بالسكنى فيه بفعل الروح القدس، الذي يعود مرة أخرى مثل تيار كهربائي يؤثر فينا.
إننا لا نشعر بتأثير الروح القدس المباشر في روحنا، ولكن كثيراً ما نشعر في النفس أو في الجسد بأمورٍ "روحية" غير مباشرة لذلك من المهم أن يكون هناك تمييز، وهذا يتم بالإرشاد الروحي، الذي يمكن أن يفرق بين "ما نشعر به"، وبين "ما يحدث فعلا" في روحنا. في الطقس البيزنطي بعد المناولة نقول: "لقد نظرنا النور الحقيقي"، كما في الطقس القبطي نقول: "ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطرعلي قلب بشر، ما أعددته يا الله لأطفال كنيستك المقدسة". كل هذا معناه أن ما نتناوله هو شيء عال وراق جداً، والذي يتناوله أعلى جزء فينا وهو الروح. النفس والجسد لا يستطيعا أن يشعرا بما يحدث في الروح لذلك نلجأ للإرشاد الروحي حتى نميز عمل النعمة فينا.
12- ما معنى فعل تقدمة الذات؟ وهل يكفي أن أقول هأنا أسلم ذاتي؟
مثل ما قلت إن الصلاة القلبية تتم في الجزء الأعلى من النفس، أي الروح، هناك شروط أو طرق تساعدني أن أسكن في المسيح الساكن فيّْ، وأهم خطوة أن أسكن في المسيح أي أدخل ملكوت السموات، لأن في جسد المسيح يسكن ملء اللاهوت كله، وهو الممتلىء من الروح القدس، كل هذا له شروط:
أولا: أن نصبح مثل الأطفال الصغار، وهذا قرار إنسان بالغ، ونتذكر قول الرب: "إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال الصغار لن تدخلوا ملكوت السموات"، وهذا أصعب قرارممكن أن يتخذه إنسان بالغ، أن يصل إلى درجة التسليم والبساطة والمطاوعة التي للطفل الصغير.
عندما أتقدم للمسيح، أكون حاملاً جبلاً فوق ظهري من المشاكل والآلام والآمال والصعوبات والخطايا وأحداث اليوم، بهذه الطريقة أكون مثل الإنسان البالغ، وكأني أنا المسئول عن كل ذلك، يجب أن أقدم كل هذه الأشياء بثقة مثل طفل صغير، ولا أجعل هذا الجبل عائقاً بيني وبين الرب، فقد قال لنا :"تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"،) مت 11، 28) أي أعطوني ثقلكم وحملكم، وخذوا حملي، وأنا حملي خفيف ونيري هين.
إذاً فهناك قرار إنسان بالغ، إن هذا فعل تواضع هام ولازم، هذا طبعا ليس معناه أني أترك واجباتي وأتواكل.
لايصح أن أدخل عند الله وأنا مرتدي حذاء. فقد قال الرب لموسى: "اخلع نعليك،لأنك في أرض مقدسة"، يجب أن أخلع هذا الحذاء الذي هو الهموم والمشاكل... وهكذا مثل الطفل الصغير الذي لا يعرف المشاكل أو المسئوليات، لايعرف الحواجز أوالخوف أيضاًَ، بل يتصرف بعفوية وتواضع وبساطة.
وقد أوصى الرب بذلك حين قال:"دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (لو18، 16).
الخطوة الثانية هي أن أقدم ذاتي كاملة للرب، وذلك بشكل بسيط جداً، أتصوروكأني مالك نفسي وقلبي وكياني، وأسلمه بملء حريتي، الله خلق الإنسان حراً، حتى يختارهو الرجوع له بملء حريته، وهذا هو الحب، عليّ أن أستخدم حريتي وإرادتي وأسلم ذاتي للرب بدون شروط، الحب ليس له شروط، لو أريد أن الله يعطي ذاته لي بدون شروط، إذن يجب أن أسلم ذاتي له بدون شروط.
لقد قال القديس أوغسطينُس: "عند المناولة، نحن لا نتناول المسيح، بل هو الذي يتناولنا ويأكلنا".
بعد ذلك ممكن أن أردد صلاة يسوع: "يا يسوع ابن داوود، ارحمني أنا الخاطيء" أو صلاة "السلام الملائكي" للعذراء مريم.
لا ننسى دور العذراء في فعل تقدمة الذات من خلالها، بذلك أستطيع أن أنسجم وأنسكب في المسيح، لا أستخدم طريقي الشخصي لأنه صعب ووعر، وقد لا أصِل، وبه مخاطرة كبيرة، بل الطريق الأقصر يكون مع العذراء مريم، ليس الهدف الأساسي أن أصلي لها هي، ولكن أصلي لها أن تصلني بيسوع بطريقتها هي الممتلئة نعمة وإيماناً.
نحن إذا أردنا أن نذهب إلى القمر، لا نستخدم عجلة، ولكن صاروخاً، نعتبر أن طريقتنا الشخصية هي العجلة، وأما طريقة العذراء مريم هي بمثابة الصاروخ الذي يصل بنا أسرع إلى قلب الآب.
العذراء عندما قالت "نعم" للملاك (انظرلو1، 38) أثناء البشارة، قالتها لها، ولأليصابات وزكريا، وأيضاً لكل إنسان.
كما يجب أن نتذكر قولها: "ليس لهم خمر" (يو2، 3)، ولم تقل ليس لدينا خمر.
13- هل للصلاة القلبية مدة محددة؟
كلا هذين النوعين من الصلاة، أي صلاة الإصغاء والصلاة القلبية يحتاج إلى وقت، حتى نتعمق فيهما و نستوعبهما داخل كياننا، مثل عملية الغذاء هي أيضا تحتاج إلى وقت للإعداد والتجهيز والأكل والهضم وهكذا. ولكي نوضح ذلك، أقول إني أستخدم إرادتي أثناء أداء الصلاة، وأعطي كياني كله، وهذا يتطلب وقتاً. وكل من قام بتجربة هذه الصلاة يعرف أنها تحتاج هذا الوقت، ومن الممكن أكثر منه، حيث إن (ساعة) لاتكفي.
بالنسبة للصلاة القلبية، لها طريقتان، أو نوعان للممارسة، أولا: ممكن ممارستها أثناء اليوم، ونحن نقوم بواجباتنا اليومية، مثلا في الشارع أو أثناء الشغل، أو أثناء الطعام، ما الذي يمنع من أن أسلم كياني أو أن أسكن في الله لمدة لحظات بسيطة؟ مثل ما قال المسيح :"صلوا ولاتملوا"، وأيضا القديس بولس أوصانا: "صلوا دائما"، ما معنى صلوا دائما؟ معناها أي اسكنوا في الله، وذلك يعود إلى حريتكم.
الله يعطيني كياني في كل لحظة، وأنا أعيده له بملء حريتي بأداء هذه الصلاة، وقد قالت القديسة تريزا الطفل يسوع: "أنا أريد مع كل دقة من قلبي أن أسلم ذاتي وكياني للرب".
كما نجد في كتاب "سائح روسي على دروب الرب" مَن يعلمنا صلاة يسوع، أنه يكرر اسم يسوع مع دقات قلبه، ومع أنفاسه، ويصبح بذلك مع يسوع ويصلي في كل وقت بحسب الوصية.
كما نجد في أول آية من نشيد الأناشيد تقول العروس: "ليقبلني بقبل فمه" ما معناها؟
أي أن تنفس الانسان يرجع لأصله، أي تبادل بالروح القدس بين الإنسان والله.
القديس يوحنا الصليب يقول: "عندما يصل الإنسان إلى درجة من درجات الاتحاد مع الله، ويشتعل بالروح القدس، إنه يعطي الله لله نفسه، كشيء يمتلكه، هو من الله ويرجع لله ، تنفس الإنسان هو رئة ونَفَس وروح، وتعطي روح الإنسان الله لله بالاشتعال بالروح القدس".
هذه الممارسة ممكنة في أي لحظة من لحظات النهار، ولكن لكي نصل إلى هذه الدرجة من الصلاة، يجب أولا أن نتناول وجبة دسمة من هذه الصلاة مرتين في اليوم، صباحاً ومساء، ولتكن من نصف ساعة إلى ساعة في المرة الواحدة، وهناك من يمارسها مدة أطول، خاصةً أثناء الرياضات الروحية، هذه الوجبات الدسمة تساعد الإنسان أن يدخل ويغطس في كيان الله بشكل عميق، أثناء هذا الوقت، أعيد فعل تقدمة الذات عدة مرات، لأني ممكن أن أخرج من هذه السكنى في الله، وخاصة المبتدئين في هذه الصلاة، ولكن أحاول أن أعود وأرجع أسكن مرة أخرى في الرب، وأجدد هذا الفعل حتى أبرز حريتي واختياري للرب أني أريد أن أسكن فيه.
من المهم احترام موعد أداء هذه الصلاة يوميا في الوقت نفسه صباحاَ ومساء، وننتبه ألا تكون هذه المواعيد قريبة من موعد النوم، أيضاًَََ وضع الجسم هام جداً، بمعنى ألا يكون الوضع مؤلماً للجسد حتى لا يتشتت الانتباه عن أداء الصلاة.
14- هل هناك صلوات معينة نرددها أثناء فعل تقدمة الذات؟
نعم، هناك صلوات كثيرة، وهناك صلوات هي عبارة عن تقدمة للذات، مثل صلاة القديسة تريزا الطفل يسوع التي تقدم ذاتها ذبيحة حب للروح القدس، نهاية هذه الصلاة من الممكن تردادها. أيضا ترداد أجزاء من المزاميرحتى نُعبرعن الشغف والرغبة للسكنى في المسيح.
هناك ملاحظة هامة جداً، أن الصلاة التي نرددها يكون بها اسم يسوع واسم مريم، إن إسم يسوع هو نار آكلة، وهذا الإسم عبارة عن (ياه شوع)، أي الله يخلص، إذن عندما أقول يا يسوع، هو يدخلني و يقذفني داخل كيانه، تكرار اسم يسوع هام جداً، ونلاحظ في "صلاة يسوع" في كتاب سائح روسي، أنه يكرر اسم يسوع الذي هو قوة فعالة، والروح القدس يعمل عنما نلفظ اسم يسوع.
أيضا صلاة الوردية هامة جداً، لأنه في السلام الملائكي نحن نردد اسم مريم و اسم يسوع هو جوهر المسبحة، ونجد العذراء دائما تشير إلى يسوع وتوجهنا ناحيته، كما أننا نلفظ اسم مريم فهي الطريق الذي يصلنا إلى يسوع، إذن تتلى الوردية بهدوء، وبدون تأمل في الأسرار، ولكن التأمل في اسم يسوع، حتى ندخل ونسكن فيه، فأكرر جملة تعبر عن شغفي أن أدخل وأسكن في المسيح.
15- ما العقبات التي تواجه المبتدئين في الحياة الروحية؟ وكيف نتغلب عليها؟
من المؤكد أن المبتدىء في الحياة الروحية، الذي بدأ يمارس صلاة الإصغاء والصلاة القلبية، وهما مائدتا القداس، سيدخل في حالة من التغيير، ونحن نعلم أن هذا الطريق ليس به ثبات، أي إما أن يحدث تقدم أو رجوع للخلف، أي لا يكتفي المبتدىء أن يعتبر أنه وصل، وأن ليس عليه التقدم في درجات الإيمان المختلفة، أو أن يكتفي بكونه مسيحياً معمداً، وأن الأمر سيتوقف عند ذلك حتى الموت، هذا خطأ كبير ومرفوض، كما قال المسيح: "أنا هوالطريق"، الطريق به خطوات تحول من الإنسان العتيق بداخلنا إلي الإنسان الجديد الذي هو على صورة الله، في طريق التحول هذا سيبدأ هذا الإنسان الجديد يأخذ مجالاً كبيراً والآخر العتيق يصبح له حيز صغيرإلى أن يختفي تدريجياً.
هذا التحول هو تطهير وتقديس للإنسان، وهذا يتأتى من ممارسة الأفعال التي تتماشى مع إرادة الله والتي لم نكن قد قمنا بها قبل ذلك، أشياء جديدة بحسب إرادة الله، كل ذلك يؤدي إلى تغيير، وهذا التغييرسيغير نظرتنا للأمور، ولنأخذ مثل الكوب الممتلىء حتى نصفه، ممكن نراه من النصف الفارغ أوالآخرالممتلىء، هكذا بالنسبة للأمور الروحية، ممكن أراها مثل مغامرة رائعة، وبها سأرى نور حب الله وناره، وهنا تكون النظرة إيجابية ومثمرة، لأني سأتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ومن الممكن أن أراها بحسب الإنسان العتيق، أي هذا الطريق به كثير من العوائق، كما أني يمكن أن أغيرعاداتي، وأكتسب عادات جديدة، قد أرفضها أولاً.
هناك مثلاً قديسون تحدثوا كثيراً عن النور والفرح، وقديسون آخرون تحدثوا عن العقبات والمحن والألم والشدائد وغيرها، بالطبع هذا لا يعني أن من يتحدث عن الفرح والنور، لايعاني المحن والألم، والعكس صحيح.
نحن نرى مثلاًًً أن اللاهوت الشرقي يميل أكثرلأن يصف الروح القدس بالنور، أما اللاهوت الغربي فهو يميل أكثر لوصف الروح القدس بالألم والصليب. هذا لا يعني أن هذا على حق والآخرمخطىء، ولكن يعني أن هناك تركيزاً على شيء أكثر من الآخر.
إذن العقبات مرتبطة مباشرةًً بحالة النمو، ومن الممكن في هذه الحالة أن أتخذ هذه العقبات لتكون ينبوع التغيير والتجدد، وليست شيئاً غامضاً وثقلاً حتمياً علينا. بالتأكيد هناك أحداث وأشخاص في حياتنا لن نستطيع تغييرهم، ولكن ممكن أن التغيير يحدث عندي أنا، وبذلك يمكنني أن أصنع سعادتي بنفسي من خلال الأحداث، و هذا إختيار. مثلاً القديسة تريزا الطفل يسوع كانت تقول: "أنا أجد سعادتي في الوضع الحالي الذي أعيشه"، و ذلك اختيار وليس حالة، فهي لم تترك المحن تؤثر عليها سلبياًَ.
16- هل هناك إشارات ملموسة تجعلنا نعرف أننا نسيرفي الطريق الصحيح، وكيف نعرف أننا نتقدم؟
هذا سؤال هام جداً، لأن هذه المعرفة (أي معرفة أين نحن في الطريق) هي سلاح ذو حدين، أي إنها يمكن أن تساعد الإنسان على النمو والتقدم، ويمكن أن تصيبه بالكبرياء الروحي.
لتنناول أولاً فكرة وجود طريق في الحياة الروحية. إنه شيء موجود في الكتاب المقدس: الرسل عندما تعرفوا على المسيح في البداية، ليسوا هم أنفسهم بعد مرور ثلاث سنوات معه، بالتأكيد حدث لهم تغيير، خاصة بعد آلام وصلب وموت وقيامة المسيح. ونرى مثلاً في إنجيل القديس متى عندما سأل المسيح تلاميذه: "من تقول الناس أني أنا هو، فقالوا بعضهم إنك يوحنا المعمدان وغيرهم إنك النبي إيليا وآخرون إنك أرميا أو واحد من الأنبياء"، فسألهم: "وانتم من تقولون إني أنا؟، فأجاب سمعان بطرس قائلاً: أنت هو المسيح إبن الله الحي!"، فقال له يسوع: "طوبى لك يا سمعان بن يونا. ما أعلن لك هذا لحمٌ ودمٌ، بل أبي الذي في السموات" (متى16، 13- 17). وهذا يوضح لنا أن هذا الكشف لم يكن بمجهود شخصي من بطرس، أي أنه لم يكن له حياة روحية بعد، لأنه عندما أعلن لهم أنه سوف يتألم ويصلب ويموت، قال له بطرس: "حاشا لك يا رب"، وهنا نرى بطرس كان عليه أن يسير في طريق تغيير، لأنه كان يعرف المسيح بقدرته البشرية، فمن المهم أن نسير مع المسيح بأسلوبه هو، أي باسلوب إلهي.
بذلك نرى أن التلاميذ أنفسهم ساروا في خطوات وأطوار، وذلك دليل واضح أن الشيء نفسه يطبق علينا، وذلك نجده بوضوح وقوة في كتب الآباء الروحيين والقديسين ومعلمي الكنيسة، إذا كان الله يتكلم عن نمو وخطوات، فذلك لفائدة الإنسان.
مثلاً، لوتصورنا أن الطب لا يعلم شيئاً عن الحمل، وأطواره ومراحله المختلفة، إلى أن يصبح الجنين طفلاً، الطب هو الذي يقول لنا هل هذا الطفل ينمو أم لا، وهو يقارن هنا بالمتوسطات المعروفة، الأمر نفسه في الحياة الروحية، من الممكن أن أعيش حياتي الروحية بإستهتار ولامبالاه، ولا أعرف أين أنا في هذا الطريق، والمعرفة هنا ليست للمباهاة، ولكن لكي أعرف ما الذي على فعله حتى أتقدم؟ هدف المعرفة هو حب الله والنمو في هذا الحب. الإرشاد مهم، لأنه يعرّف الإنسان هل هو ينمو أم لا؟.
يساعدني الإرشاد الروحي حتى أعرف ماذا عليّ أن أفعل، حتي أتقدم في المعرفة والقدرة على الحب، وهنا يمكنني أن أقبل على أشياء لم أكن أستطيع أن أقوم بها في السابق، من المهم أن أعرف لأني يمكن أكون أفضل.
الثقافة الروحية ضرورية، وتأتي من كتب القديسين ومعلمي الكنيسة، والإرشاد الروحي، ونحن مثقفون في أشياء كثيرة، وليس لدينا ثقافة روحية.
من المهم أيضاً معرفة خطوات نموالإنسان الروحية، حتي يمكنني أن أعرف أين أنا، ولكن ننتبه أن هذه المعرفة قد تنقلب إلى نوع من الكبرياء الروحي، وذلك خطر، ولذلك نوهت أن هذه المعرفة هي سلاح ذو حدين.
الإنسان الذي يجب أن يهتم بالإرشاد الروحي هو المرشد وليس المسترشد، لأنه عندما يعرف أين أنا من الطريق الروحي- يعطيني خبرته كمرشد، يقول لي ماذا أفعل- هل أقرأ كتاباً معيناً، أم أقوم بأفعال معينة؟ وهكذا من أمور لتساعدني على النمو، لأنه كما قالت القديسة تريزا الأفيلية إن هذا الطريق ليس به ثبات، إما أن نرتفع لأعلى، و إما لأسفل.
17- نريد أن نعرف ما الفرق بين الإعتراف والإرشاد الروحي؟
الفرق شاسع، وللأسف ممكن أحياناً أن نخلط بين الإثنين، وننسى قضية الإرشاد الروحي.
في سرالإعتراف، نحن نذهب للمسيح ونسرد له الخطايا التي قمنا بها، والمسيح يعطينا بواسطة الكاهن غفران خطايانا ويعطينا الكاهن فرض أو قانون يسمح بتفعيل نعمة مغفرة المسيح في حياتنا. ولكن الإرشاد الروحي، أنا أتكلم عن حياتي الروحية، وكيف أنظمها، وهل أنا أمين عليها أم لا؟
في سرالإعتراف، الكاهن لايقوم بالإرشاد، لأن ذلك يتطلب وقتاً، أما في الإرشاد، فيسأل المرشد عن أشياء ليراجع حياة المسترشد، وكأنه يُمشط حكمة الإنسان، أي هل تصرفه صحيح أم لا؟.
من هو المحتاج للإرشاد الروحي؟ إنه الشخص الذي بدأ فعلا في الطريق الروحي، الذي قرر أن يضع يده في يد المسيح، وبدأ يمارس صلاة الإصغاء، والصلاة القلبية، وبدأ يتغذى، وهو هنا يحتاج لمراجعة هذا الغذاء، والتأكد إذا كان يساعده على النمو أم لا. الحياة الروحية بحرواسع جداً، ولايمكننا أن نسير فيه بمفردنا، بينما في الإعتراف، نحن نراجع وصايا الرب (الوصايا العشر) وهل نقوم بها أم لا؟ أي نحن نعرف الوصايا، ونعترف أننا لم نفعلها، أو نعرف ما هي الخطايا التي فعلناها بالإهمال، ونعترف على ذلك.
هناك أيضا فرق بين الإرشاد الروحي، والثقافة الروحية، والتعليم الروحي.
التعليم الروحي: يدرس في "كورسات" تسمى (التربية الدينية للبالغين)، أي تكوين روحي للبالغين، لا نكتفي بالقليل، لكن علينا أن نتعلم حتي نعرف كيف نتحرك، أما الإرشاد لا يعطي علماً، وإنما يوجه فقط، ولكن التعليم الروحي يُعطى للجميع.
أما الثقافة الروحية، هي مطالعة كتب معلمي الكنيسة، الغربيين مثلاً: القديسة تريزا الأفيلية، والقديس يوحنا الصليب، والقديسة تريزا الطفل يسوع، ومن معلمي الكنيسة الشرقيين، هناك الكثيرون أيضاً، بدون الثقافة الروحية لايمكن أن نتحرك ونتصرف بإسلوب جديد. أنا لا أقصد أن يتحول المجتمع إلي مجتمع ديني، ولكن على الأقل يكون هناك ثقافة روحية، أي ألا نكتفي بالقليل، كما أن عدم الثقافة معناها أن الشخص لم يبدأ الطريق بعد.
18- هل تذكر لنا بعض الكتب الهامة للقراءة؟
الكتاب الأساسي هو الكتاب المقدس، وهو بحر واسع، وعلينا أن نعرف كيف نغوص في هذا البحر. الذي يتكلم في هذا الكتاب هو الروح القدس. لذلك مكانة الكتاب المقدس بين الكتب الأخرى حتى الأسمى منها و الأكثر روحانية تختلف تماماً، إذ علينا أن نعطيه ليس المقام الأول فقط ولكن أن نفهم أن ليس بعده كتاب ثانٍ. إذ أننا لانستطيع أن نبدله ولا أن نساويه مع أي كتاب آخر. أي كتاب آخر روحي مفيد دوره هو أن يعلمنا كيف نقرأ الكتاب المقدس وكيف نبحر فيه. هناك آباء للكنيسة في الحقبة الزمنية من القرن الثاني إلى القرن السابع الميلادي، قد وضعوا لنا تفاسير الكتاب المقدس في غاية الأهمية، من هؤلاء الآباء: القديس أثناسيوس، القديس كيرلس السكندري؛ القديس كيرلس الأورشليمي القديس غريغوريوس النيزينزي، القديس يوحنا ذهبي الفم، القديس يوحنا الدمشقي ، القديس أوغسطينس، القديس أمبروسيوس، العلامة أوريجانس وهومصري، وغيرهم كثيرون، هؤلاء الآباء لهم فائدة أساسية، لأنهم علمونا كيف نقرأ الكتاب المقدس بالروح. يمكن أن نقرأه بالحرف فقط، ولكن علينا أن نقرأه بالحرف والروح.
لنأخذ مثلا نص السامري الصالح، ونرى كيف فسروه، هم احترموا النص، ولكن عندهم شفافية، أي إنهم يرون أشياء نحن لا نراها.
الجريح الذي كان ملقى على الطريق هو آدم، وحالته هي نصف مائت، كان نازلا من أورشليم السماوية ثم ُضرِب بمعنى أنه أخطأ. اللاوي هو موسى ولم يستطع أن ينقذه، والكاهن، يمثل الأنبياء الذين أتوا بعد موسى، ولم يستطيعوا أيضاً أن يخلصوه أو يشفوه، ثم جاء السامري الصالح، أي المسيح، وكيف نسمي المسيح سامرياً؟ نتذكر أن قصة السامري جاءت من سؤال سأله شخص ليسوع المسيح، عندما قال له: ماهي وصايا الرب؟ فأجابه يسوع: أن تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، وأن تحب قريبك كنفسك، فسأله: ومن هو قريبي، فبدأ يسوع يشرح مثل السامري الصالح، والمسيح علمه كيف يكون قريباً للآخر، هنا السامري هو المسيح بحسب الآباء، وهو لم يعتبر نفسه من الشكل المألوف للأنبياء أوالملوك، ولكنه كان مختلفاً، لأنه هو الذي اقترب من الإنسان حتى يداويه ويشفيه.
القديس أوغسطينس مثلاً قال عن الدينارين في مثل السامري، هما الوصيتان الأساسيتان في الإنجيل كله، وهما "محبة الرب ومحبة القريب"، وهما يلخصان الإنجيل كله، والفندق الذي أخذه فيه ليشفى هو الكنيسة.وهكذا.
إذن آباء الكنيسة يعلموننا كيف نفك رموز الكتاب المقدس، ويدلوننا علي كيفية تفسيرها، إنه علم منفصل، ولكنه شيق جداً، أن نتعلم ليس مضمون الرموز فقط لأنها يمكن أن تختلف من مفسر لآخر، وكلٍ منهما جائز وصحيح، ولكن هناك أيضاً تفاسير أقوى من فك الموز، ضرورية عندما أبدأ الحياة الروحية أن أتتلمذ على أيدي هؤلاء الآباء حتى أعرف كيف أتغذى من الكتاب المقدس.
نحن نتعلم معهم الدخول في حقبة الرموز وفكها، أي أن النفس تنفتح وتستطيع أن تستقبل المسيح، وتعبر من شاطىء البحر إلى الآخر، أي من المعرفة العادية إلى المعرفة الأعمق، وتصبح الثقافة الروحية التي نأخذها من الآباء ضرورية وهامة جداً حتى نعرف ونتعلم كيف نتحرك.
هنالك بالطبع كتب كثيرة تعلمنا الحياة الروحية. من البديهي أن أول قراءة نباشرها حتى نؤسس حياتنا المسيحية هو قراءة كتاب "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية".وإذا أردنا أن نتعمق في الحياة الروحية، ونبحر فيها، فعلينا أن نذهب إلى المعلمين الروحانيين؛ لمعرفة الكتب والمؤلفين الروحانيين انظر سؤال 25.
19- هل واجب إحضار كتب تفاسير الكتاب المقدس؟
نعم، كنت أتكلم عن الثقافة الروحية، وذلك عمل شخصي، بغض النظر عن حضور التكوين الروحي للبالغين، ونحن هنا في مصرعندنا المكتبة القبطية الأورثوذكسية مليئة وعامرة بالكتب وتفاسيرالآباء، وقد قامت بترجمة سلاسل من هذه الكتب، وبأسعارمعقولة جداً.
هناك تفسير القديس أوغسطينس لإنجيل يوحنا، وأجزاء من العهد القديم، وتفسير القديس أمبروسيوس لإنجيل لوقا، وتفاسيرلأوريجانس، وعظات للقديس كيرلس الأورشليمي لشرح أجزاء من العهد القديم، وهي هامة، فنحن نعلم أن العهد القديم هو عبارة عن العهد الجديد، ولكن بشكل مستتر، وكيف نعرف ذلك إلا من خلال كتب التفاسير، وبالقراءة والاطلاع. ونتذكر حديث المسيح مع تلاميذ عماوس، وهم حزانى، أن المسيح انتهى بهذا الشكل! فبدأ يسوع يشرح لهم من العهد القديم هذه الأحداث، نتذكر أيضاً وقت البصخة المقدسة أثناء أسبوع الآلام، نقرأ نبوءات العهد القديم، وهذه هي الليتورجيا، ونذوق مع الآباء هذه النصوص التي وضعوها، فنقرأ العهد القديم الذي يتكلم عن المسيح، لذلك القراءة والمطالعة أساسيةً.
20- متى يمكن لدارس هذا التعليم أن ينقله ويسلمه للآخرين؟
إن نقل هذا التعليم يصنف في التعليم الروحي على أنه فعل محبة، أوفعل رحمة، عندما يبدأ المسيحي حياته الروحية، ويضع يده في يد المسيح، المسيح لا يجذبه هو فقط نحوه، ولكن يجذبه أيضاً نحو جسده الذي هو القريب، فأنا لاأستطيع أن أحب المسيح الرأس وأنسى المسيح الجسد، لذلك قال السيد المسيح:"كل مافعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي صنعتموه". هو لم يقل كأنكم فعلتموه لي، بل قال قد فعلتموه لي، وهوهنا يحاول يفهمنا أن هناك المسيح الرأس أي ربنا يسوع المسيح، وأيضاً جسده الذي هو كل إنسان مدعو لمعرفة المسيح، عند بداية الحياة الروحية يفهمنا المسيح ضرورة الانفتاح على الآخر في سبيل المسيح، وبحثاً عن المسيح في هذا الآخر.
إذن، من بداية الحياة الروحية، حيث تبدأ المحبة الإلهية بتفتح عين قلب الإنسان حتى يرى المسيح في أخيه- المسيح يقول: "صلوا لأعدائكم، وباركوا لاعنيكم"، لأن عدوك اليوم هو مسيحي غداً، والذي سيفتح له الطريق هو أنت، يا من بدأت تعرف المسيح، وتضع يدك في يده، لأنك أنت وسيط، وقناة توصل النعمة، وتفتح الطريق لأخيك، ولو كنت أنت لا تفهم ذلك، فأنت تغلق الطريق أمامك وأمام أخيك أيضاً. وكما قال القديس بولس: "من منا لايهتم بجسده ويحبه" وهنا قريبك هو جسدك، ولو نظرنا لهذا الآخر بنظرة روحية، سنجد القريب هو أولاً جسدنا، لذلك أيضاً قال السيد المسيح: "أن تحب قريبك كنفسك"، ونحن ننظر إلى جسدنا كجزء غريب عنا، وهنا خطأ كبير، لأن الروح القدس الذي يربطني بالله، هو أيضاً نفس الروح الذي يربطني مع القريب، فلا أستطيع أن أقول إني أحب الله، وأنا لا أحب القريب. إذن، من بداية الطريق الروحي، يجب أن تتفجر قوة الروح القدس داخل قلب الإنسان، وتبدأ المحبة الحقيقية للآخر، ولا أخاف من ذلك، لأني سأبدأ أكتشف حب الله لي، وعندها سأنفتح على محبة القريب، لأني من ذاتي لن أستطيع بقوتي الشخصية أن أحب قريبي إن لم أحب نفسي أولاً، أو إن لم أستقبل حب الله لي.
هذه مجرد خطوة، وتأتي خطوات أعمق، لأني كيف يمكنني أن أحب إنساناً قد سبب لي أذى؟ هذا صعب، بل يشكل لي جبلاً، هو جبل الأنا، ويحتاج إلى أن أسيرخطوات، وهنا سأكتشف عالماً جديداً، حيث سيزداد حب الله داخلي، ويشمل ليس القريب فقط ، بل الأعداء أيضاً، بل يشمل أشخاصاً لم نفكر أن نحبهم، لأنهم كانوا بالنسبة لنا من المنبوذين، لأننا نعتبرهم خطأة، ولكن مع التقدم في الحياة الروحية، وحياة الصلاة، تبدأ تظهر حالة من الضيافة الروحية، التي تملأ قلب الإنسان، وتستطيع أن تضم وتشمل العالم كله.
هذا النمو في المحبة، بالطبع له نتائج، أولاً تبدأ أعمال المحبة، وتشمل الأفعال الملموسة أو المادية، منها الاهتمام بالمرضى والفقراء والمحتاجين، وهذا يساعدني أن أخرج من ذاتي الأنانية والخائفة، وأستطيع أن أرى أن هناك فقيراً ومحتاجاً، وهنا المسيح يزيل الغمامة من أعين النفس، والتي تمنعني من أن أرى الآخر المحتاج لي، وأعيش في حالة من الانسجام الروحي مع الآخر، حتى ولو لم أره، لأن المسيح هو الذي منح قلبي هذا الاتساع وساعدني على محبة الآخر، وخطوة بعد أخرى تبدأ هذه المحبة تتسع وتشمل أبعاداً جديدة ورفيعة، وراقية، ونصل بعد ذلك إلى مرحلة تعليم الآخرين، وكما قلت إن هذا فعل من أفعال الرحمة، فلا يصح أن أترك أخي جاهلاً، لا يعلم بكل هذه الأمور، فكما أعطيه أن يأكل مادياً، يجب أن أعطي قلبه وكيانه غذاء آخر، وهذا يتطلب إعداداً، أي ليس إرتجالياً، والإعداد هو من القراءة والمطالعة والدراسة، وحضور الدراسات التكوينية، ويمكن أيضاً إجراء امتحانات لهؤلاء الدارسين، ثم يبدأ الإنسان يعطي مما أخذه، ولكن كخطوة سابقة لذلك، يمكن تعلم أشياء بسيطة، ونقلها، أي ليس بالضرورة أن أصبح عالماً حتى أعطي، ولكن في الموعد المناسب، وبالشكل المناسب وليس عشوائياً، أي أعطي أوأمتنع عندما يريد الرب ذلك، إذ ليس ما هومفيد يعطى في أي وقت.
21- ما معنى إنكار الذات الذي قصده السيد المسيح؟
إن الإنسان عندما يبدأ ينمو روحياً، يكون مثل المرأة الحامل بتوأم أحدهما هو الإنسان العتيق، والآخر هو الإنسان الجديد، والاثنان دائماً في حالة حرب، وهذه الحرب طبيعية: أحدهما بذرة نوريجب أن تنمو وتصبح شجرة كبيرة، والآخر يمثل الزوؤان الذي ينبت بين الزرع ليفسده، وهو يتلف ويضعف ويموت من نفسه. علينا إذاً أن نميز بين نوعين من "حب الذات" واحد إيجابي مطلوب ومُحبذ، والآخر سلبي يُبغض ويُنبذ. حب ذات إيجابي ممكن أن يدعو للاستغراب. في الواقع حب الذات هو ضرورة حيوية؛ دعني أشرح ذلك:
عندما تكلم السيد المسيح عن محبة الله ومحبة القريب، قال: "أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك، وأحبب قريبك كنفسك". كيف نفهم "كنفسك"؟ يطلب مني الرب أن أحب نفسي بحسب الله وبحب الله. عندما تكلم القديس بولس عن حب الرجل لامرأته قال أن عليه أن يحبها كجسده، وأضاف قائلاً إنه من البديهي أننا نعتني بجسدنا ونهتم به ونغذيه (أف5، 28-29). هذه إشارة واضحة على إن الإنسان، وبشكل طبيعي يهتم بجسده وبذاته. أحياناً كثيرة نحن لا نهتم بأجسادنا كما يجب، وذلك يحدث بطرق شتى: التدخين مثلاً، والإفراط في تناول الطعام. هذا إهمال للصحة الجسدية، وخطأ كبير. إذن بداخل تعليم ووصايا الرب وصية حب الذات، ولكن بحسب النور، وليس بحسب الظلمة، أي أن لا أقهر جسدي أو أميته بشكل مفرط وبغير تمييز، لأني بذلك سأفقد عزيمتي وحريتي اللتين ستساعداني في القيام بوصايا الرب. إني لو أنهكت قواي تماماً بهذه الأفعال، أين الكيان الذي سيحبه الله؟ هناك من يظنون أن هذا هو المطلوب منهم، ولكن هذا خطأ في التمييز، لأني بذلك أكون قد أضعفت حريتي وقدرتي على الاختيار، وهذا هو أكسجين الله.
الله مثل زرعة تنمو بداخلي، يتنفس من العطاء الذي أعطيه له، فلا أستطيع أن أقتل ذاتي، فمن الذي سيحب ويشتغل إذن؟ إنكار الذات الإيجابي هو إنكار للإنسان القديم، إنكار للأنانية، أي إنكار وضع ذاتي في المقام الأول بشكل سلبي، وليس وضع الله في المقام الأول، وحبه لي أيضاً. يجب أن أنسى مصلحتي، وألا أكون أنانياً.
إنكار الذات هو عندما أجد نفسي في لحظة ما أمام خيارين، أحدهما يمثل مصلحتي الشخصية بأنانية، والآخر خدمة الله والقريب، ماذا سأختار؟ هل سأتجه لمساعدة هذا المحتاج لي، أم سأفضل بأنانية راحتي؟ هل سأرى المسيح في شخص هذا المحتاج الذي يقرع بابي أم لا؟ إذا اتجهت إلى هذا المحتاج، فهذا هو إنكار الذات، وهنا أنكر ذاتي لكي أغذيها بالنورالإلهي، وأغذي عيني برؤية المسيح، وأيضاً قلبي بالروح القدس المعطى لي، فأعطيه لأخي هذا المحتاج، وهذا يحدث نمو لذاتي بفعل إنكار الذات هذا: ففي الواقع إني أنكر الإنسان القديم وأغذي الإنسان الجديد الذي هو على صورة الله ومثاله.
22- ما هدف الحياة الروحية؟
للحياة الروحية هدفان، أولهما هو الاتحاد بالمسيح، وهذا لا يتم في لحظة، ولكن بالتدريج، إلى أن نصل لحالة من الثبات. وقد وصف قديسو الشرق هذه الحالة باقتناء الروح القدس. إذاً الهدف هو أن نصل إلى هذه المرحلة، والتي منها نصل إلى تحقيق الهدف الأخير، وهو ملء أو اكتمال المحبة فينا، وذلك يتوافق مع لحظة الموت. وهنا نذكر أن موت المسيحي الذي وصل إلى ملء حياته الروحية يختلف عن موت أي إنسان آخر غير مكتملة بنيته الروحية.
الإنسان المكتمل في سيرته، يشبه شجرة وصلت إلى ملء نموها واكتمالها، فطرحت ثمارها عدة مرات، وبعد ذلك أنهت رسالتها. أما الإنسان الذي يصل إلى الموت ولم يتمم مسيرته الروحية، يشبه الشجرة التي لم يكتمل نموها، وهذا، للأسف الشديد، هو حال أغلب الناس. لذلك نشير إلى ضرورة التكوين الروحي للبالغين، حتى يصل أكبر عدد إلى الاكتمال أي إلى قامة ملء المسيح.
إذن، المرحلة الأولى في الحياة الروحية هدفها الاتحاد بالمسيح، والمرحلة الثانية هدفها ملء المحبة، أي أن يكون الإنسان قد اكتمل في المحبة، مما يسبب انفصال الروح والنفس عن الجسد، محدثاً الموت. فيكون سبب الموت ليس أي سبب طبيعي (كالمرض أو الشيخوخة) ولكن نتيجة لفعل حب من أفعال الروح القدس أقوى من السابقين، يُستأصل فيه النفس والروح من الجسد4.
هذا الاتحاد مع المسيح هو الذي نوه عنه القديس بولس عندما قال: "لست أنا أحيا، بل المسيح يحيا في" (غل2، 20). بينما ملء المحبة تحدث عندما يقدم الإنسان حياته للرب ذبيحة (أنظر 2تيمو4، 6)، وكما قال القديس بولس أيضاً: "أتمم في جسدي ما ينقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (كو1، 24). بالطبع أن آلام المسيح تامة، ولكن هو يشير إلى دوره في تطبيق ثمار آلام المسيح على أعضاء جسد المسيح.
دعنا نرجع إلى الهدف الأول لحياتنا على الأرض وهو "الإتحاد بالمسيح" أو "القران الروحي" معه. ينتابنا السؤال الُمِلح: أين "الاتحاد بالمسيح" في الكتاب المقدس؟ لو عمقنا نظرتنا للصليب لوجدنا ثلاثة مستويات: 1- الجسد المتألم، 2- النفس المتألمة بسبب خطايانا ("نفسي حزينة حتى الموت" (مت26، 38)) 3- الروح في نشوة وفرح إذ إنه يتمم خلاص البشر. إذاً، إذا تخطينا بنظرة إيمانية ثاقبة الجسد المتألم والنفس المتألمة، سنصل إلى روح المسيح وسنجدها متحدة مع لاهوته كلها نور ومحبة وفرح. والقديسون رأوا أن المسيح في هذا الوقت يضم الإنسان إلى الله، أي كأنه يمسك الإنسان بيدٍ من ناحية، والله بيدٍ من ناحية أخرى، ويضمهما ويجمعهما محققاً رجوع الإنسان إلى الله واتحاده به. نستخلص إذا كان المسيح ظاهرياً، فهو جسدياً مثبتاً على الصليب، فإنه في الواقع باطنياً يتحرك كل الحركة، محققاً الخلاص أي عابراً بالإنسان من الظلمة البعيدة، إلى النور الإلهي، أي إلى حضن الآب.
ولو كل واحد منا تعمق في مشهد الصليب بإيمان، سيجد نفسه بين يدي المسيح وهو يضمه مع الله، أي سيشاهد، بنعمة الرب، لحظة اتحاده مع المسيح الله. لذلك يتغنى القديس بولس عندما يشاهد المصلوب قائلاً: "لقد أحبني ومات من أجلي" (غل2، 20). لذلك يعتبر الروحانيون واللاهوتيون الصليب مثلَ الفراش الذي يجمع العروس مع العريس.
شكل آخر للاتحاد نجده في العشاء الأخير، حيث قال المسيح: "خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذا هو دمي" (مت26: 26، 27 ) هو هنا يعطي كيانه، ويتحد معنا. وأيضاً في العشاء الأخير يطلب من الآب أن يوحدنا معه كما أنه هو واحد مع الآب (يو17).
ما أعلاه يؤكد ويثبت أن هدفنا في حياتنا على الأرض هو الوصول إلى الإتحاد مع المسيح. فلا يمكن أن نعيش حياتنا اليومية بدون أن يكون هدفنا الأول وشغفنا ورجائنا (اللاهوتي) هو الاتحاد مع المسيح، وأن نعمل كل ما في وسعنا حتى نصل إليه.
23- ماذا يفعل الذين يريدون أن يتعلموا؟
بدون شك، تحاول كل رعية أن توفرقدراً من التكوين الروحي لأبنائها، و تهتم بقضية التعليم الروحي للبالغين، وذلك يتفاوت من جهة لأخرى، وهناك طرق شتى لتحقيق ذلك، مثل ما يقدمه بعض الكهنة من كورسات ومحاضرات هدفها تعليم الحياة الروحية، وأيضاً ما يقدمه معهد التعليم الديني بالسكاكيني، وغيرها من الأماكن التي تهدف إلى تعليم وتوعية البالغين بالحياة الروحية.
أيضاً، هناك كتابات القديسين، من المهم قرائتها، ولكن لا ننسى أن الكتاب المقدس هو الكتاب الأساسي لنا، وأي كتاب آخر حتى وإن كان ملهماً، لا يقترب أبداً من درجة إلهام الكتاب المقدس، لأنه كلام الله. و لايقارن مع أي كتاب آخر.
أريد أن أذكّر أيضاً بضرورة ممارسة صلاة الإصغاء، والاستماع لكلام الرب يومياً من خلال القراءات اليومية، وقد أصدرت كتاباً شيقاً جداً يشرح ويصف هذه الصلاة حتى يسهل للمؤمنين أداؤها. وسيصدر قريباً إنشاء الله كتاب آخر عن "الصلاة القلبية".
أشير أيضاً إلى ضرورة قراءة كتب القديسين5. هنالك كتب لقديسين كثيرين، لكنهم لم يتحدثوا كلهم عن الحياة الروحية. إذا أردنا أن نتعمق في الحياة الروحية وأن نبحر فيها فعلينا أن نذهب إلى "المعلمين الروحانيين". من "المعلمين الروحانيين" الكبار الذين اعترفت بهم الكنيسة الكاثوليكية كملافنة، أي أعطتهم رتبة "معلمي كنيسة" علينا أن نذكر: القديس يوحنا الصليب، القديسة تريزا الأفيلية والقديسة تريزا الطفل يسوع، والحمد لله أعمالهم موجودة للقارىء العربي وممكن أن نضيف القديسة كاترينا السيانية. علينا أيضاً ألا ننسى باقي المعلمين الروحانيين خاصة الشرقيين منهم: القديس أنطونيوس أبو الرهبان، القديس مقار، مار إفرام السرياني، القديس سمعان اللاهوتي الجديد، القديس يوحنا السلمي، إيفاجريوس البنطي، وأقوال آباء الرهبان..الخ. ومن المعلمين الشرقيين أيضاً، هناك القديس غريغوريوس النيسي، وقد كتب حياة موسى، وأوريجانُس، وقد وضع تفاسير للتوراة، وسفر نشيد الأنشاد، وهي تفاسير هامة، ومفيدة روحياً والقديس ديونيسيوس الأريوباجي.
هنالك بعض المجهودات الحديثة لتقدمة كتب تكون بمثابة خلاصة لللاهوت الروحي. نذكر على سبيل المثال في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كتاب "حياة الصلاة الأرثوكسية" للأب متى المسكين وكتب أخرى ترجمت للعربية لمؤلفين كنيسة الروم الأرثوذكس. أما عن الكنيسة الكاثوليكية ممكن على سبيل المثال أن نذكر كتاب "أريد أن أرى الله" للأب ماري أوجين الطفل يسوع، وهو من أجمل الخلاصات المتداولة (لم يترجم بعد ولكنه متواجد في كل اللغات الكبرى). أضيف أيضاً القديس جرينيون دي مونفور، وهو فرنسي، وقد تكلم عن العذراء مريم، وله كتاب اسمه: "التكريم الحقيقي للعذراء مريم".
24- كيف نصلي الصلوات التقليدية (القداس، الأجبية، الوردية، الخ):
أ- بالصلاة القلبية و ب- بصلاة الإصغاء؟
أ- بالصلاة القلبية:
قبل كل شيء نتناول العلاقة بين الصلاة القلبية وكل أنواع الصلوات أياً كانت. الصلاة القلبية هي في الواقع حركة باطنية نرفع بها قلبنا إلى المسيح فيأخذه و يضعه داخل قلبه المضطرم بنار الحب.
هذه الحركة الباطنية تلاحم و اتصال مباشر مع الله، وتجعل كل صلاة فعّالة. إن أي صلاة "بالروح والحق" (يو4، 23- 24)، تَحدث عندما نكون في المسيح الابن، أمام الآب، بالروح القدس. الصلاة القلبية تدخلنا في المسيح وتضعنا تحت تأثير الروح القدس. لذلك في المسيح، بالروح القدس، نستطيع أن نقول "أبانا الذي". التواجد في المسيح أو خارجه أمر حيوي، بالغ الأهمية، ويتوقف علينا. لذلك الكاهن يدعو المؤمنين قائلاً: "ارفعوا قلوبكم". بدعوته لهم يحثهم أن ينالوا النعمة الحالية للدخول في المسيح. إذ إنه لا يكفي أن نكون معمدين حتى نكون فعلاً وحالياً في المسيح. المعمودية ليست نعمة جبرية في حياة الإنسان و لكنها تفتح مجالاً جديداً لاستخدام الحرية. المعمودية تؤهل الإنسان لإستخدام حريته بشكل جديد حتى يحب الله في كل لحظة. الزمن في حياة الإنسان بعد المعمودية يختلف تماماً عن الزمن قبلها: لقد وضع الله بين يدي المؤمن المعمد مقدرة جديدة على أن يحب الله. لقد أصبح في استطاعته أن يحب بالفعل في أي لحظة من نهاره. وما هو"أن نحب الله" إلا أن "نقدم ذواتنا للرب كاملةً، بدون شروط وبلا رجعة، في نار الروح القدس". يذكرنا القديس بولس بمقدرتنا الجديدة، المعطاة من الله، على حبه، داعياً إيانا بأن نقدم كياننا ذبيحةً حيةً مقدسةً مرضيةً (أنظر رو 12، 1). علينا أن ننتبه كل الانتباه لملاحظة القديس بولس: "فهذه هي عبادتكم الروحية" (رو12، 1). إن هذا الكلام يعني أنه من الممكن أن نصلي بطريقتين: واحدة روحية، في المسيح، بالروح القدس، وأخرى غير روحية، بالجسد والذهن فقط. في الأولى قلبنا متواجد داخل الله، تفيض الصلاة فيه من الله، فتصل إلينا، وتعمل فينا، وترجع إليه، أما في الثانية فالصلاة هي مخاطبة، من بعيد، لإله لسنا متواجدين فيه.
نفهم مما سبق أن الصلاة بالقلب، أو الصلاة القلبية، هي باطن كل صلاة. وعلينا إذاً أن نتعلم ونتدرب على ممارسة الفعل الباطني – والتمرس يتطلب وقتاً وإتقاناً. الفعل الباطني هو بمثابة إستخدام حريتنا ونعمة الله المعطاة لنا في المعمودية حتى نقرب ذواتنا إليه. وعلينا أن نتدرب على دمج هذا الفعل الباطني مع أي صلاة شفهية6. إن القديسة تريزا الأفيلية، في كتابها "طريق الكمال"، تشير إلى ضرورة تلاحم الصلاة الباطنية مع الصلاة الشفهية أياً كانت. لأول وهلة، ممكن أن تظهر ضرورة دمج الحركة الباطنية مع الكلام الملفوظ كأمر صعب. ولكن بالتدريب، يتعلم المؤمن أن يرفع قلبه للرب كما يدعوه الكاهن في القداس مثلاً، وفي الوقت نفسه يتبع الصلوات كلها. في هذه الحالة اشتراك المؤمن في الصلاة الجماعية (في القداس مثلاً) يكون فعلياً، روحياً ومثمراً7.
الصلاة القلبية التي هي العبادة بالروح والحق، تجعل المسيحي يختبر حالات جديدة يغدقه فيها الله بروحه القدوس. هذا العمل الفائق للطبيعة للروح القدس هو من صلب الحياة المسيحية وليس حكراً على بعض المختارين، ولقد شرحه باستفاضة معلمو الكنيسة الروحانيون (على سبيل المثال، راجع كتابات القديسة تريزا الأفيلية).
ب- صلاة الإصغاء:
إن صلاة الإصغاء، كما نشرحها، هي امتداد لوليمة الكلمة في القداس. في مائدة الكلمة يأتي المسيح القائم من بين الأموات و يخاطب كل مؤمن مستخدماً قراءات القداس. الإحتفال بالكلمة هو سر8 حقيقي، فيه يفتح المسيح فمه متفوهاً بكلامٍ هو "روح وحياة" (يو6، 63). الاحتفال بالكلمة في القداس هو أول الأسرار ورأسها. وهذا الاحتفال هوعبارة عن وليمة مطروح فيها لنا وجبة أساسية. في مائدة الكلمة يجدد المسيح تجواله بيننا ووعظه للجموع فنصبح بها معاصرين للرسل والتلاميذ لا نقل حظاً عنهم. إذا فُهِِمت هذه المائدة فهماً أعمق لركّز كل مؤمن انتباهه حول المسيح الحاضر بيننا الذي يفتح فمه ليعطي كلمات فيها قوة إلهية، هي قوة الروح القدس، قوة في إمكانها تغيير الإنسان يوماً بعد يوم و تحوله في المسيح. إذا فهمنا هذه الأبعاد كل الفهم لكرسنا طاقاتنا لعملية الإصغاء وأتقناها كل الإتقان حتى تنجح يومياً وتدر خيرات جمة. من الصعب وبل من غير المنطقي تناسي هذا الكنز أو محاولة تعويضه بتدريبات تَقوية أضعف بكثير من حضور المسيح الحال في القداس. لأسباب كثيرة، منها ضعف الإنسان، يفقد الإحتفال بالكلمة جلالته وفاعليته، لذلك على المسيحي التقي أن يعوض هذا الضعف بممارسة "صلاة الإصغاء".
فصلاة الإصغاء هنا إمتداد لمائدة الكلمة ولا تزيد عليها شيئاً بل إنها تسمح لنا أن نعيشها بملء و ننال كل النعمة التي يأتى بها المسيح لنا اليوم. علينا ألا ننسى أنه ليس بالخبز وحده يحيا المسيحي ولكن بكل كلمة تخرج من فم المسيح. ولأهمية هذا الخبز الحي دعانا المسيح أن نطلبه كل يوم: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم". من فهم هذه الحقائق لا يستطيع التهرب من الأولويات: السعي لنوال نعمة كلمة المسيح الموجهة له اليوم في صلاة الإصغاء. يقول في هذا الصدد البابا بنديكتس السادس عشر: "إني مقتنع بأن النهوض بفاعلية بممارسة "صلاة الاصغاء" سيجلب ذلك إلى الكنيسة ربيعاً روحياً جديداً"9.
نعلم بالخبرة أن تناول الكلمة، هضمها وفهمها، وتجسدها فينا هي عملية تأخذ ما يقارب الساعة. إذا تبقى وقت عند المؤمن لأي تدريب آخر أو أي نوع آخر من الصلاة فليمارسها. غالبية الصلوات المعترف بها من الكنيسة نجد فيها كلام الله أي مقاطع من الكتاب المقدس. فمثلاً الأجبية أو "صلوات الساعات" كلها ممتلئة من كلام الله؛ فالمزامير هي كلام الله المُلهم نرى فيها المسيح ونسمع صوته مخاطباً الآب، و يسمع فيها الآب عبر تلاوتنا لها صوت الابن. بدون شك إن صلوات الأجبية، صلاة الفرض، أيضاً غذاء لنا. و لكن صلاة الأجبية لا تحل محل صلاة الإصغاء والعكس أيضاً. إن صلاة الأجبية تجعلنا نتوقف مراراً عن العمل حتى نقدس النهار ونعترف أن الرب هو الذي يبني البيت (انظر مز127، 1). صلاة الأجبية ذات أهمية قصوى لممارسة كهنوت المسيح الذي يتشفع، عن طريق جسده السري، للعالم أجمع في كل ساعة من ساعات النهار.
يقال تقليدياً أن الوردية هي "إنجيل الفقير" بمعنى أنه في العصور الوسطى كان الفقراء لا يعرفون القراءة، لكيلا يحرموا من الإنجيل، أي من أقوال وأفعال المسيح، رتبت الكنيسة أسلوباً بسيطاً ومركزاً حتى يحصل المؤمن على غذائه من الإنجيل. لذلك جمعت أسرار المسيح في ثلاث قوائم (وأضيفت قائمة جديدة حديثاً) وهي: أحداث فرح في حياة المسيح، أحداث آلامه وموته وأحداث مجيدة في حياته. الرغبة هنا واضحة هي أن نضع في متناول اليد تلخيص مُرّكز للإنجيل. بدون شك كانت هذه خطوة ملهمة جد الإلهام خصوصاً باختيارها للعذراء مريم كمرجع أمثل لمشاهدة المسيح في حياته. إن العذراء في حد ذاتها أحسن وأعمق وأطهر موقع نستطيع به و فيه أن نرى ونحب المسيح إنجيلنا الحي. من هذا المنطلق تُلقي المسبحة الوردية على صلاة الإصغاء ضوء أشد إذ إنها توجه كياننا إلى أفضل وسيلة للإصغاء، فتدفعنا إلى أن نطلب من الله أن يعطينا قلباًً جديداً (حز36، 26-27) على شكل ومثال قلب العذراء، يستطيع استيعاب كلمة المسيح وحفظها والرجوع إليها بتكرار في بحر النهار (لو2، 51.19). فإنه لا مانع، بل بالعكس من المفضل، أن نأخذ مريم في خاصتنا (يو19، 27)، و نحن نمارس صلاة الإصغاء. فالتوصل إلى طهارة قلب مريم هو مفتاح نجاح "صلاة الإصغاء".
__________
4 أنظر القديس يوحنا للصليب "شعلة حب متأججة" مقطوعة 1، البيت السادس.
5 من المهم التنويه إلى التفرقة بين "سير القديسين" كما نكتبها نحن وكما يراها الله. إذا كان كاتب السيرة ليس لاهوتياً متبحراً في الحياة الروحية فمن الممكن هنا أن يصور القداسة بحسب خبرته الشخصية، ويحصرها في بعض التدريبات (كثرة الصوم، والصلاة والتقشف)، ولا يشرح أشياء كثيرة في غاية الأهمية، من غيرها لا يصل الإنسان إلى القداسة. زيادة التركيز على بعض التدريبات الروحية أو الظواهر الخارقة من دون غيرها سوف يُعجّز القارىء بدلاً من أن يساعده على التقدم. هذا التنويه هام جداً ويجب ألا ننساه.
6 الصلاة الشفهية هي كل أنواع الصلاة التي تقال بصوت مسموع كالقداس و كل الصلوات الجماعية كالأجبية و المسبحة الوردية الخ.
7 جدير بالذكر أن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني شدد كثيراً على مفهوم "الاشتراك المثمر" للمؤمنين في الليتورجيا.
8 كلمة "سر" هنا لا تشير إلى أحد الأسرار السبعة ولكن علينا أن نأخذها بالمعنى العام للسر الذي يعني وجود إشارة حسية (الكلام) لنعمة غير حسية (المسيح الذي يعطينا كلامه الممتلىء نعمة).
9 المؤتمر العالمي لمرور 40 سنة على صدور دستور "كلمة الله" للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، جريدة الفاتيكان 17/9/2005، ص 5
الله معاك أبونا٫
ردحذفهل لديك نفس المواضيع في اللغة الفرنسية لو سمحت ؟
شكراً لك لهذه المواضيع الغنية والممتلئة من الروح القدس
الشدياق شربل معوض